أفق بعيد
صحافة الدفع الآلي
فيصل محمد صالح
ممنوع من النشر بامر الرقيب الامني
في بداية عملي الصحفي كتبت تحقيقا صحفيا عن المستشفيات الخاصة، كان في جوهره ناقدا لها ولأدائها، لكني صادفت عملا طبيا مميزا في إحدى المستشفيات الخاصة، كان الأول من نوعه بالسودان فنوهت عنه في سياق التحقيق. في اليوم الثاني لنشر التحقيق سألتني زميلة صحفية، في حضور زملاء آخرين، ببراءة شديدة، أو هكذا ظهر لي: "ناس المستشفى ديل أدوك كم"؟ وتركتني مذهولا. إلا أن زميلا مخضرما هون علي الأمر وشرح لي الموقف قائلا " يا ابني في ناس في الدنيا لا يتخذون موقفا ما ولا يعملون عملا ما لم يدفع لهم وفورا، لذلك هم يعتقدون أن كل الناس مثلهم، ولا يتصورون عمل شئ بسبب القناعة، وإنما لا بد من الدفع".
تصادفك هذه النماذج أينما تذهب وتتجه في هذه الحياة، فهناك نوع من البشر ينتظر مقابلا ماديا مباشرا لأي موقف يتخذه في الحياة، سياسيا كان أو اجتماعيا أو إنسانيا حتى. وينقل هؤلاء وضعهم هذا ليطبقوه على الآخرين، فطالما هو يتحرك بمحرك الدفع فلا بد أن الآخرين يتحركون بنفس محرك "الدفع الآلي". إذا أيدت الحكومة في قضية فلا بد أن تقبض منها، وإذا عارضتها فلا يمكن أن تكون معارضتك لوجه الله والوطن، بل لا بد أن هناك جهة ما تدفع لك.
والوسط الصحفي ليس بريئا من هذا الفيروس، ولا خاليا منه، فهناك من يتصرفون ويتخذون المواقف على قاعدة "الدفع الآلي" هذه، وهناك من يفسرون كل المواقف على هذا الأساس. ولا تظنن أن الأمر مجرد سوء تقدير أو حسابات خاطئة، بل هي مواقف مدروسة ومخطط لها سلفا. ربما لا يستطيع اللص الذي تم ضبطه بالجرم المشهود أن ينكر جريمته، لهذا من الأهون والأسهل عليه أن يقول إن الجميع لصوص وأنه ليس اللص الوحيد. قد لا يستطيع الساقط أخلاقيا وقيميا أن يقول إنه ليس كذلك، لأن الأدلة على سقوطه كثيرة، لذلك يميل للقول إن الجميع ساقطون.... وما في حد أحسن من حد..!
وهناك أسلوب آخر مثل "يعني شنو لو سرقت محفظة، يا ما في ناس بيسرقوا بنوك" وهكذا تهون سرقة المحفظة إذا قيست بحجم المبالغ المالية المسروقة من البنك. ويستخدم هذا الأسلوب لتبرير التعاملات غير الأخلاقية مع أجهزة وجهات تمنع أخلاقيات العمل الصحفي التعامل معها واتخاذها مصدرا، والتكسب منها،لأن من المعروف أن هدفها ليس الحقيقة ولا نقل المعلومات، فتكون الإجابة التبريرية " على الأقل دي جهات وطنية..لكن في ناس بيقبضوا من سكسونيا العليا".
وبين سكسونيا السفلى وسكسونيا العليا تضيع حقائق كثيرة.
قبل يومين نشرت الزميلة "آخر لحظة" تحقيقا قالت عناوينه أن هناك صحفيين يقبضون من الحكومة الأمريكية، ونشرت مختصرات للأسماء من الواضح أنها جزءا من تقارير لبعض الأجهزة، ولا يهمني التقرير في حد ذاته ، ولا علاقة الصحيفة بالأجهزة، لكن يهمني ما نشرته الصحيفة وصارت مسئولة عنه أخلاقيا وقانونيا. وقد جاء أحد الاختصارات مطابقا لاسمي ووضعي، والمطلوب من الزميلة "آخر لحظة" نشر الأسماء والوثائق كاملة خدمة للقارئ والحقيقة، وعندها سيكون لكل حادث حديث.
صحافة الدفع الآلي
فيصل محمد صالح
ممنوع من النشر بامر الرقيب الامني
في بداية عملي الصحفي كتبت تحقيقا صحفيا عن المستشفيات الخاصة، كان في جوهره ناقدا لها ولأدائها، لكني صادفت عملا طبيا مميزا في إحدى المستشفيات الخاصة، كان الأول من نوعه بالسودان فنوهت عنه في سياق التحقيق. في اليوم الثاني لنشر التحقيق سألتني زميلة صحفية، في حضور زملاء آخرين، ببراءة شديدة، أو هكذا ظهر لي: "ناس المستشفى ديل أدوك كم"؟ وتركتني مذهولا. إلا أن زميلا مخضرما هون علي الأمر وشرح لي الموقف قائلا " يا ابني في ناس في الدنيا لا يتخذون موقفا ما ولا يعملون عملا ما لم يدفع لهم وفورا، لذلك هم يعتقدون أن كل الناس مثلهم، ولا يتصورون عمل شئ بسبب القناعة، وإنما لا بد من الدفع".
تصادفك هذه النماذج أينما تذهب وتتجه في هذه الحياة، فهناك نوع من البشر ينتظر مقابلا ماديا مباشرا لأي موقف يتخذه في الحياة، سياسيا كان أو اجتماعيا أو إنسانيا حتى. وينقل هؤلاء وضعهم هذا ليطبقوه على الآخرين، فطالما هو يتحرك بمحرك الدفع فلا بد أن الآخرين يتحركون بنفس محرك "الدفع الآلي". إذا أيدت الحكومة في قضية فلا بد أن تقبض منها، وإذا عارضتها فلا يمكن أن تكون معارضتك لوجه الله والوطن، بل لا بد أن هناك جهة ما تدفع لك.
والوسط الصحفي ليس بريئا من هذا الفيروس، ولا خاليا منه، فهناك من يتصرفون ويتخذون المواقف على قاعدة "الدفع الآلي" هذه، وهناك من يفسرون كل المواقف على هذا الأساس. ولا تظنن أن الأمر مجرد سوء تقدير أو حسابات خاطئة، بل هي مواقف مدروسة ومخطط لها سلفا. ربما لا يستطيع اللص الذي تم ضبطه بالجرم المشهود أن ينكر جريمته، لهذا من الأهون والأسهل عليه أن يقول إن الجميع لصوص وأنه ليس اللص الوحيد. قد لا يستطيع الساقط أخلاقيا وقيميا أن يقول إنه ليس كذلك، لأن الأدلة على سقوطه كثيرة، لذلك يميل للقول إن الجميع ساقطون.... وما في حد أحسن من حد..!
وهناك أسلوب آخر مثل "يعني شنو لو سرقت محفظة، يا ما في ناس بيسرقوا بنوك" وهكذا تهون سرقة المحفظة إذا قيست بحجم المبالغ المالية المسروقة من البنك. ويستخدم هذا الأسلوب لتبرير التعاملات غير الأخلاقية مع أجهزة وجهات تمنع أخلاقيات العمل الصحفي التعامل معها واتخاذها مصدرا، والتكسب منها،لأن من المعروف أن هدفها ليس الحقيقة ولا نقل المعلومات، فتكون الإجابة التبريرية " على الأقل دي جهات وطنية..لكن في ناس بيقبضوا من سكسونيا العليا".
وبين سكسونيا السفلى وسكسونيا العليا تضيع حقائق كثيرة.
قبل يومين نشرت الزميلة "آخر لحظة" تحقيقا قالت عناوينه أن هناك صحفيين يقبضون من الحكومة الأمريكية، ونشرت مختصرات للأسماء من الواضح أنها جزءا من تقارير لبعض الأجهزة، ولا يهمني التقرير في حد ذاته ، ولا علاقة الصحيفة بالأجهزة، لكن يهمني ما نشرته الصحيفة وصارت مسئولة عنه أخلاقيا وقانونيا. وقد جاء أحد الاختصارات مطابقا لاسمي ووضعي، والمطلوب من الزميلة "آخر لحظة" نشر الأسماء والوثائق كاملة خدمة للقارئ والحقيقة، وعندها سيكون لكل حادث حديث.