الجمعة، 28 أغسطس 2009

بعد قرار لجنة التحكيم..مشكلات وتداعيات محتملة عند التنفيذ (نزعته الرقابة الامنية)


بعد قرار لجنة التحكيم..مشكلات وتداعيات محتملة عند التنفيذ (نزعته الرقابة الامنية)


تقرير: آدم أبكر علي
برغم عبارات الترحيب الحارة التي قابل بها الشريكان قرار ترسيم أبيي إلا أن الأفق يحمل بعضاً من مفاجآت محتملة ، وثمة عراقيل قد تظهر في الأيام القادمة، خصوصاً وسط بعض أبناء المسيرية الذين أعلنوا رفضهم لهذا القرار فقد جاء على لسان أمير المجاهدين لأبناء المسيرية "نحن نرفض القرار رفضاً تاماً، لأن ما جاء فيه حول منطقة أبيي عبارة عن ذريعة لخلق أزمة تؤدي في نهاية المطاف إلى المزيد من الضحايا ونحن غير مستعدين لتقديم المزيد من الضحايا"، وأضاف: "ان دينكا نقوك لدينا تاريخهم منذ زمن المستعمر، حيث قال "انهم أتوا عندما طردوا من النوير، حيث قدم المسيرية لهم الحماية وتحالفوا مع المسيريةوأضاف عندما جاءت اتفاقية السلام الشامل أثير موضوع أبيي من جديد وطالبت الحركة الشعبية لتحرير السودان بمنطقة أبيي وليس دينكا نقوك هم من طالبوا بذلك وأشار أمير المجاهدين إلى حديث أتيم قرنق لإحدى القنوات قائلاً: الحديث الذي يتحدث فيه أتيم قرنق كلام ليس من الحقيقة في شيء لأن اتيم قرنق ليس من دينكا نقوك وأنه أدخل نفسه، وجد رفضه للقرار حيث قال نحن حينما نثير المشكلة لا نثيرها حباً في المشاكل وفي سؤال آخر مع أمير المجاهدين حول إلزامية القرار قال: "هناك قرارات عديدة صدرت من هذه المحمة ولم يتم الإلتزام بها لماذا على أبناء المسيرية الإلتزام بهذا القرار"، مشيراً إلى أن أعداداً كبيرة من أبناء المسيرية في مناطق المجلد والميرم خرجوا منددين بالقرار، وفي إتصال هاتفي مع اتيم قرنق نائب رئيس المجلس الوطني قال: "ان حزب المؤتمر الوطني يبدو أنه يحمل رسالتين يريد إرسالهما إلى العالم رسالة للعالم وافريقيا وللمنطقة لإظهار أنهم ملتزمون بالقرار والرسالة الثانية شعبية وهي الرسالة التي يقوم بهات الدرديري محمد أحمد واتضح ذلك خلال كلامه عن الدينكا ومعناه إذا لم تتقاسموا الأرض مع المسيرية بنسبة 50%، 50% فالويل والثبور لهم في حين أن دينكا نقوك والحركة الشعبية ليست لديهم أي اعتراض في حقوق المسيرية في الرعي. من جانب آخر قال اتيم (إن المسيرية في أبيي هم مجتمعات رعوية، يتواجدون في شهري 12، 1 من كل عام، وفي سؤال من الذي يحق له الاستفتاء قال أي شخص آخر أقام ي أبيي إقامة دائمة من قبيل أنه ولد في أبيي، وقال عن المدة المحددة قائلاً: "ان المفوضية هي التي تحدد مدة الإقامة حسب الاتفاقية"، وقال اتيم: "ان المسيرية هم ليسوا جزءاً من أبيي لكن لهم حقوق في الرعي، وليس لهم الحق في تقرير مصير أبيي وفي سؤال آخر عن حقوق النفط التي يطالب بها المؤتمر الوطني قال أتيم هذا السؤال من الأجدر أن تسأل به نفسك أولاً، لماذا الشمال أخذ أموال النفط في حقول بانتيو من العام 98- 2005م ولا أحد طالبهم بها، وقال أتيم: "بالنسبة لمنطقة هجليج حسب حكم أبيي، يقول سنة 1905م كان جزءاً من أبيي لكن نحن نريد أن نعرف من تاريخ 1/1/1956م إلى أي جهة تتبع؟ انها كانت تتبع لولاية الوحدة لكن الحكومة لا تقول في سنة 1956م بل تقول في سنة 1905م، وفي سؤال آخر فند دلوكا بيونق الإدعاءات التي تروجها أجهزة الإعلام بذهاب البترول مشالاً حيث قال: "ان المحكمة مكلفة فقط بترسيم حدود أبيي وليس حدود الشمال والجنوب"، وأضاف: "إن آبار وحقول النفط في هجليج ستحسمها لجنة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب باعتبار أن حقول هجليج محل نزاع بين ولايتي جنوب كردفان والوحدة"، وقال عن الذين يحق لهم الاستفتاء "ان من يحق لهم الاستفتاء هم دينكا نقوك وبقية المواطنين الذين ستحددهم المفوضية"، من جانب آخر تحدث الصادق بابو أحد قيادات المسيرية والقيادي البارز في حزب الأمة عن القرار قائلاً: طلن نذهب أكثر مما ذهب إليه القاضي عون القصاونة، وشهد شاهد من أهلها- لكن هذا اتفاق بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، نحن لسنا طرفاً فيه لكن نحن نقول نفدي البلد بالولد نحن حقنا ضاع، لكن نحن لا نريد الرجوع إلى مربع الحرب مرة أخرى. وقال الصادق: "لأننا حريصين على التعايش السلمي وبأي صورة من الصور تُوفر لنا فيه ما تضمنه قرار اللجنة، وهذا القرار شئنا أم أبينا لأنه أصبح ملزم ومسنود بشرعية دولية وبالتالي لا يوجد مجال للبطبطة ومن الضروري جداً أن تثبت حقوقنا وتؤمن بحسب ما ورد في قرار التحكيم نفسه، ويضيف: "نحن فقدنا موارد طبيعية مهمة جداً بالنسبة لنا في بحر العرب وغيرها، وهذا ندفعه مهراً للسلام بشريطة أن تحدث تنمية بالنسبة لمناطقنا وحسب ما جاء في حديث الرئيس هذا ما نريده باختصار نحن لا نريد أكثر مما التزمت به الدولة على مرآى ومسمع أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وحذر قائلاً: "ففي حالة تحقيق التنمية حسب كلام الرئيس فنحن ليست لدينا أي مشكلة وفي حالة لم يتم تنفيذه ربما تطرأ مستجدات تجعلنا نطرق سبلاً أخرى"، من قراءة التصرحيات التي صدرت وتصدر من الأطراف الأخرى خارج نطاق الحكومة (الحركة والمؤتمر الوطني)، يتضح جلياً للمراقب أن قرار لجنة التحكيم قد بدأ سريانه وتعرف الآخرين على جزء منه قد لا يتفقون في كثير من أجزاءه لكن طبيعة القرار تفرض عليهم الإلتزام بتنفيذ كل ما جاء في قرار التحكيم فقبل صدور القرار تمت تهيئة الأجواء لتقبل القرار مهما كان وفعلاً خلال الأيام الأولى لصدور القرار كان الهدوء هو السمة الغالبة في وسط كل الأطراف من خارج نطاق حكومة الوحدة الوطنية، لكن بعض التصريحات التي خرجت من طرف من أطراف الإتفاق والذي أظهر فيه تحقيق نوعاً من الإنتصار على الطرف الآخر هو ما دفع بالأطراف الأخرى أن تفتح ملف الخسارة والكسب وهذا الملف فيه من الخطورة ما يهدّد بنسف دعائم التعايش السلمي وتعيد المنطقة إلى مربع الحرب، ففي يوم صدور القرار حذر نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان مالك عقار من تصوير القرار على أساس الكسب أو الخسارة، وقال الخسارة تعني الخسارة لكل السودان، لأن أبيي جزءاً من السودان، فالتصريحات التي تقول بان الطرف الفلاني قد حقق كسباً على الطرف الآخر هي تصريحات ضررها أكثر من نفعها، والأيام القادمة كفيلة بفضح التصريحات السالبة.

حول اشكالية قيام الانتخابات(1-2) (نزعته الرقابة الامنية)


حول اشكالية قيام الانتخابات(1-2) (نزعته الرقابة الامنية)

سبعة ولايات شمالية نالت 50% من الدوائر الانتخابية!!
هذه المادة.. وضعت لتعطي ولاة المؤتمر الوطني الحق في فض الليالي السياسية
مدخل:
ان الانتخابات التي اعلن عن قيامها في العام المقبل تأتي بعد اربعة وعشرين عاماً من اخر انتخابات عامة حرة اقيمت في هذه البلاد وهذا يعني ان هنالك جيل باكمله تخرج من الجامعات والتحق بالخدمة العامة دون ان يشهد طوال حياته اية عملية انتخابية حقيقية .. كما لم يشهد اي ممارسة للديمقراطية او التداول السلمي للسلطة فما هو واجب الحكومة تجاه مثل هذا الشعب قبل قيام الانتخابات؟ أليس واجبها هو ان توظف كل وسائل الاعلام لتوعية الشعب بالانتخابات واجراءاتها وقانونها وكيفية ادائها وبالتحول الديمقراطي المقبل؟ ولكن هذا لم يحدث حتى بعد ان اجلت الانتخابات مرتين.لا بد من تزييف المسرح السياسي برمته!! ولسائل ان يسأل: لماذا حكمت حكومة الانقاذ لمدة عشرين عاماً بصورة شمولية دكتاتورية صارمة دون ان تفكر في اقامة انتخابات ولمجيب ان يجيب انها كانت تخشي فقدان الكراسي والسقوط فلماذا اذاً قبلت اقامة الانتخابات الان؟ هل غير من قاموا بالانقلاب في يونيو 1989م رأيهم واقتنعوا الآن بان الانتخابات والديمقراطية هي من اسس نظام الحكم الافضل ولو ادى ذلك الى ابعادهم عن سدة الحكم؟ ام ان قناعتهم لم تتغير ولكنهم تعرضوا لضغوط دولية واقليمية ومحلية من ضمنها توقيعهم على اتفاقية السلام الشامل التي نصت على قيام الانتخابات فاذا كانت الانقاذ لم تقم في الماضي بانتخابات خوفاً من فقدان السلطة وقبلت الان ان تقوم بها فان هذا يعني انها فكرت وخططت لتجعل الانتخابات غير قادرة على نزع السلطة منها وهذا الامر يقتضي تدبيرا دقيقا يستغل كافة الامكانيات المتاحة للدولة لتحقيق ضمان فوز المؤتمر الوطني بالانتخابات. لقد دلت التجارب الماثلة في ايران وفي كينيا وغيرها على ان تزوير الانتخابات بالطرق التقليدية كالتلاعب ببطاقات الاقتراع لا يجوز على الشعوب ولهذا لا بد من تزييف المسرح السياسي برمته حتى تجئ العملية الانتخابية لقمة سائغة ولو لم يتم التلاعب ببطاقات الاقتراع ومعلوم أن أي حزب لا يمكنه ان يؤثر على الجو العام ما عدا الحزب الذي يكون في السلطة عند قيام الانتخابات قابضاً على كل مفاصلها وموظفاً كل امكاناتها لمصلحته ثم هو ينافس الاحزاب الاخرى وكأنه في نفس مستواها. ان هذه الورقة تهدف الى توضيح المسائل التي تشكل عقبة امام قيام انتخابات حرة ونزيهة في السودان في هذا الوقت بالذات وهي تدعو الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالقضايا السياسية والجهات الاجنبية ذات الاهتمام بقضية الديمقراطية بصورة عامة وتلك التي تهتم بالتحول الديمقراطي في السودان بصفة خاصة وكافة المواطنين تدعوهم جميعاً للتأمل في التفاصيل التي تثيرها والحرص والاصرار على قيام انتخابات حقيقية لا مجرد اجراء اقتراع لا يؤدي في النهاية الا الى تكريس النظام الشمولي الحاضر واعطاؤه شرعية متوهمة بمنحه فرصة الاستمرار في السلطة عن طريق الانتخابات. الوضع السياسي العام: لقد كانت فترة حكومة الوحدة الوطنية التي قامت بموجب اتفاقية السلام الشامل فترة مضطربة يعاني فيها الشريكان: المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان من خلافات تكاد تعصف بالاتفاق في كل يوم ولقد ازداد الخلاف وتعقد حتى استدعى تدخل الوسطاء فقد دعت الولايات المتحدة الامريكية الشريكين في شهر يونيو 2009م الى واشنطن في محاولة للتوفيق بينهما وتقريب وجهات النظر حول الخلافات حتى يتم ضمان قيام الانتخابات والاستفتاء كما نصت عليهما الاتفاقية. ولعل اهم نقاط الخلاف والتي تعوق قيام الانتخابات هي نتائج التعداد السكاني الاخير التي رفضتها الحركة الشعبية منذ اعلانها ولا يزال المؤتمر الوطني يصر عليها ولقد اعتبر عدد الجنوبيين في شمال السودان بناء على نتائج التعداد 520 الف نسمة فقط وهو امر غير مقبول حتى من بعض المختصصين المنسوبين للمؤتمر الوطني ففي مقابلة صحفية مع د. عوض حاج علي والذي كان مسؤولاً عن التعداد السابق ذكر انه لا يوافق على نتائج التعداد فيما يخص الجنوبيين ويتفق معهم على الاعتراض عليها وهو يقدر عدد الجنوبيين في الخرطوم بمليون ونصف، المشكلة هي ان الدوائر الانتخابية قد وزعت على اساس هذا التعداد الخاطئ فاعطى 21% من الدوائر في محاولة ظاهرة لاضعافه في الانتخابات وفي الاستفتاء وهذا يعد خرقاً ظاهراً لاتفاقية السلام التي اعطت الحركة الشعبية مع بقية الاحزاب الجنوبية حق المشاركة في السلطة بنسبة 34%. فالمؤتمر الوطني يريد للحركة الشعبية ان تقبل هذا التقليل من حقها بدعوى انه جاء نتيجة تعداد سكاني وكأنه طرف محايد اجرى التعداد بصورة علمية نزيهة وهذا كله خلاف الواقع ولعل المقصود من كل هذا هو وضع الحركة الشعبية في موقف حرج فان هي قبلت نتائج التعداد وقامت الانتخابات والاستفتاء على اساسها خسرت الحركة وان رفضت اعتبرت رافضة للانتخابات والاستفتاء اللذين نصت عليهما اتفاقية السلام الشامل ولقد ظهر هذا الخلل في توزيع الدوائر الانتخابية اعتماداً على نتائج التعداد فقد نالت 7 ولايات شمالية 50% من دوائر الانتخابات بينما نالت بقية الولايات الـ 19 بما فيها ولايات الجنوب 50% من الدوائر!! وبالاضافة لهذه المشكلة هنالك الوضع الامني المطرب في جنوب السودان فان الحركة الشعبية قد اتهمت المؤتمر الوطني باثارة الصراعات القبلية بالجنوب عن طريق تسليح بعض المجموعات القبلية الموالية له للمؤتمر لتثير القلاقل في جنوب السودان فاذا كانت الاضطرابات قد حدثت قبل الانتخابات فانها يتوقع ان تتفاقم عند قيامها ما يؤثر على سيرها ونتائجها. ومن المسائل التي اثارتها المعارضة في الاسبوع الاول من شهر يوليو 2009م عدم دستورية الحكومة بحلول الاسبوع الثاني من شهر يوليو وذلك لان الدستور قد نص على ان تقام الانتخابات بعد 4 سنوات من توقيع الاتفاقية وهو ما قد حل في 9 يوليو 2009م فاذا اخرت الحكومة الانتخابات لتمدد من عمرها فان ذلك ما احتاطت له الاتفاقية وحددت بسببه الزمن الذي بتجاوزه تصبح الحكومة غير شرعية وغير دستورية ورغم ان الحكومة بشقيها لا توافق على ما ذكرته المعارضة الا ان الحركة الشعبية قد تعاملت معه بصورة موضوعية هادئة بينما قام منسوبون للمؤتمر الوطني بتهديد رئيس كتلة الاحزاب المعارضة التي طرحت هذا الموضوع. ولم تستطع الحكومة حتى الان حل مشكلة دارفور ولا زالت مناطق عديدة ملتهبة بالمواجهات بين الحكومة والفصائل المسلحة ولقد حدث هجوم من القوات التشادية اكثر من مرة وتعذر التعداد في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحركات المسلحة ولعل الاسباب التي منعت التعداد هي نفسها التي ستمنع الانتخابات فهل تريد الحكومة استثناء دارفور من الانتخابات ام استثناء اجزاء منها بسبب الظروف الامنية ولقد ذكر السيد ابيل الير رئيس مفوضية الانتخابات بان هناك عدم امن في دارفور وان الانتخابات لا يمكن ان تقوم في ظروف عدم الامن (الصحافة 17/6/2009م) ان عدد سكان دارفور قد قدر بـ 7 مليون نسمة اي حوالي 17.5% من جملة سكان السودان فهل يمكن ان يستثني هذا العدد من الانتخابات العامة ثم تكون نتائجها ممثلة تماماً لاهل السودان الا يعني استبعاد اجزاء من اقليم تقطنه قبائل معينة تمييز اثني قد يفاقم من الصراعات والحروب التي لا تزال مشتعلة بسبب هذه المشكلة العرقية؟! ان ازمة المحكمة الجنائية الدولية لا تزال ماثلة ولا يكفي في مواجهتها عدم الاعتراف بالمحكمة بحجة ان السودان لم يوقع او يصادق على اتفاقية روما وذلك لأن القضية احيلت للمحكمة من مجلس الامن فلا يجوز رفضها الا اذا كانت الدولة ليست عضواً في الامم المتحدة ومن ناحية اخرى فان الحكومة لا تريد ان تقوم باجراء اي محاكمات لمرتكبي جرائم دارفور بل انها لا تستطيع ذلك في ظل القوانين الحالية التي لا تتضمن عقوبات على جرائم الحرب وجرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي كما انها تمنح حصانة لافراد جهاز الامن والدفاع الشعبي وكبار المسؤولين فلا يطولهم القانون ولم تعجز الحكومة عن المحاكمات فحسب بل عجزت عن تحقيق السلام بسبب الفشل في المفاوضات ورفض مطالب اهل دارفور التي عبرت عنها معظم مبادراتهم والمتمثلة في الاقليم الواحد والمشاركة في مؤسسة الرئاسة بنائب رئيس وتسريح الجنجويد والمحاكمات والتعويضات واعادة الاراضي .. فهل يقبل اهالي دارفور بتعليق مطالبهم واستمرار الاشتباكات وعدم الاستقرار والنزوح في مقابل اجراء انتخابات جزئية؟ ان مشكلة المحكمة الجناية اذا لم تحل ولم يتحقق السلام في دارفور فان المتوقع ان يفرض مجلس الامن عقوبات على السودان وفي تلك الحالة فان المجتمع الدولي لن يقبل الانتخابات ولن يعتمد نتائجها وما يترتب عليها وهذه احدى اشكالات الانتخابات التي لا يملك لها المؤتمر الوطني حلاً. الانتخابات والقوانين المقيدة للحريات: ولما كان نظام الانقاذ قبل اتفاقية السلام شمولياً فقد اعتمد على قوانين سافرة التقييد للحريات ولا تناسب اي وضع ديمقراطي وحين وقعت حكومة الانقاذ اتفاقية السلام الشامل قبلت بما جاء فيها من تأكيد على مبادئ الحرية وما ورد فيها من اعتبار الشرعة الدولية لحقوق الانسان التي تتضمن كافة مواثيق حقوق الانسان جزءاً لا يتجزأ من الاتفاقية ومن دستور السودان الانتقالي لعام 2005م ولذلك فقد اقرت بتعديل القوانين التي تتعارض مع الاتفاقية ومع الدستور ومع المبادئ العامة لحقوق الانسان ولكنها نكصت عند التنفيذ واجازت تعديلات اسوأ من القوانين السابقة ورفضت تعديل قوانين غاية في السوء ولقد ذكر بعض القانونيين ان القوانين التي تحتاج الى تعديل قد بلغت 61 قانوناً ونحن هنا لن نعرض لها جميعاً وانما نقف عند بعض المواد التي تتأثر بها الانتخابات. فمن القوانين التي اثارت جدلاً كبيراً قانون الامن الوطني والمخابرات وذلك لأن جهاز الامن قد تضخم واصبح جهاز سياسي بسلطات واسعة وحصانة تامة لكل افراده امام جميع المحاكم ومع ان اتفاقية السلام الشامل قد نصت على ان يتحول جهاز الامن الى جهاز لجمع وتحليل المعلومات ورفعها للجهات العليا الا انه لا زال يمارس كل نشاطه كما كان يفعل حين كانت الانقاذ تتفرد وحدها بالسلطة وتعمد الى ارهاب خصومها فما زال هذا القانون يعطي الجهاز الحق في الاعتقال بدون توجيه اي تهمة ويمارس واعضاؤه محميون بالحصانة القانونية. ان قانون الامن الوطني والمخابرات بما يعطي من صلاحيات واسعة لجهاز هو اصلاً يعبر عن توجه حزب المؤتمر الوطني ويعمل لرعاية مصالحه يعتبر معوقاً للانتخابات بما يهدد امن وسلامة المعارضين السياسيين خاصة اذا كان لهم نشاط فعال في التوعية او التنظيم الذي يعمل على اسقاط المؤتمر الوطني في الانتخابات فمن السهل على جهاز الامن تحت ظل هذا القانون ان يعتقل الناشطين السياسيين المعارضين ويحتجزهم بدعوى انهم يخططون لعمل ضد امن البلد ولا يطلق سراحهم الا بعد الانتخابات كما يمكن ان يفض الاجتماعات التي تقوم بها الاحزاب باي دعوى حتى يمنع التنسيق والتحالف الذي قد يؤثر على المؤتمر الوطني في الانتخابات هذه نماذج بسيطة وهنالك الالاف غيرها مما يمكن ان يرتكب من جرائم باسم الحفاظ على الامن بغرض الحفاظ على مصالح المؤتمر الوطني وتحقيق فوزه بالانتخابات ولقد اعترضت الاحزاب مراراً على هذا القانون وطالبت بتعديله ولكن المؤتمر الوطني رفض حتى مجرد طرح القانون للنقاش في المجلس الوطني. ولكن اضيفت المادة 127 التي تمنح الولاة والمعتمدين الحق في حظر وتقييد المواكب والتجمعات والتجمهر متى ما رأوا فيه اخلالاً بالسلامة العامة. ولعله من الواضح ان مثل هذه المادة قد وضعت لتعطي الولاة- ومعظمهم من المؤتمر الوطني – الحق في فض الليالي السياسية والندوات والمحاضرات العامة التي يقوم بها منافسوهم من الاحزاب الاخرى بدعوى انها تخل بالسلامة العامة .. ولن يسألهم احد كيف عرفوا ذلك وما هي السلامة العامة وكيف تؤثر ندوة سياسية عليها وذلك لأن هذا القانون العجيب الذي اعطاهم الحق في ايقاف نشاط منافسيهم حتى يتسنى لهم الفوز في الانتخابات لم يفسر كل ذلك. قانون منظمات العمل الطوعي ومن القوانين التي تمت المطالبة بتغييرها لبالغ اثرها على منظمات المجتمع المدني قانون منظمات العمل الطوعي والانساني فلقد رفع ضده طعن دستوري لما يطلق من يد مفوضية العمل الطوعي والانساني في التدخل في عمل المنظمات الطوعية الوطنية ولكن الطعن رفض بواسطة المحكمة الدستورية العليا ولعل من اسوأ تطبيقات هذا القانون طرد منظمات الاغاثة الذي جرى مؤخراً والغاء تراخيصها بناء على تهم سياسية لا علاقة لها بواجباتها. ثم انها لم تثبت بل ان بعض هذه المنظمات المطرودة لا تعمل في دارفور حتى تعطي معلومات عما يجري فيها لمدعي المحكمة الجنائية الدولية كما جرى الاتهام ولقد احدث طرد منظمات الاغاثة ضرراً بالغاً في معسكرات النازحين في دارفور وحول الخرطوم. اذ ان اثر الفجوة قد قدر بفقدان حوالي مليون شخص للغذاء والدواء بحلول الخريف ولعل هذا واضح الاثر على الانتخابات اذ ان الجوع والمرض وعدم الاستقرار يجعل قضية الاقتراع بل قضية الانتخابات نفسها قضية ثانوية لا تمس حياة هؤلاء المواطنين كما انه وفق هذا القانون قد تم عدم التصديق لقيام منظمات وطنية كان يمكن ان تسهم في اثراء المجتمع المدني ولما كان القانون يعطي منظمة العون الانساني الحق في ايقاف نشاط اي منظمة طوعية فان المنظمات التي تختلف في رؤاها مع المؤتمر الوطني يضيق عليها بواسطة مفوضية العمل الانساني بمختلف الحجج الواهية بينما المنظمات التابعة للمؤتمر الوطني او التي تعبر عن توجهاته تجد كل الدعم والحرية ولعل اخر النماذج ما حدث بمركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية فقد اوقفت مفوضية العون الانساني ندوة عن الانتخابات بحجة ان المركز مسجل فدرالياً ويحتاج ان يسجل ولائياً قبل ان يمارس نشاطه هذا مع ان المركز قد استمر في نشاط متواصل لعامين ولم تتدخل المفوضية لايقافه لانه معلوم ان التسجيل على نطاق الوطن يعطيه الحق للعمل في اي ولاية بما في ذلك ولاية الخرطوم ولكن يبدو ان المفوضية قد وظفت سياسياً لايقاف النشاط الذي يؤثر على المؤتمر الوطني في الانتخابات ولو كان مجرد توعية المواطنين بالانتخابات خاصة اذا قامت بها مجموعات غير منسوبة الى المؤتمر الوطني. حرية الصحافة: لقد ظلت الرقابة على الصحف هاجساً يؤرق الصحفيين وغيرهم من المواطنين فقد دأبت الحكومة على ارسال رجل امن يومياً ليقرأ جميع الصحف ماعدا الصحف التابعة للمؤتمر الوطني قبل طباعتها وينزع اي موضوع يحوي في تقديرهم نقداً للحكومة او لاحد المسؤولين فلا تنشر الصحف الا ما يقبله رجال الامن ولقد اعترض الصحفيون مراراً واضربوا عدة مرات اعتراضاً على هذه الرقابة القبلية واثاروا في عدة منابر ضرورة تغيير قانون الصحافة الذي يؤسس لهذه الرقابة وبعد عدة حوارات وافق المؤتمر الوطني على تغيير قانون الصحافة وطرح قانوناً جديداً اجازه بالاغلبية رغم الاعتراض عليه ولا يختلف القانون الجديد عن القديم الا في الصياغة فبدلاً من القول بحق الحكومة في مصادرة الصحف واعتقال الصحفيين جاء القانون الجديد في المادة 5/2 ( لا حظر على الصحف الا في الحالات التي يحددها الدستور والقانون) المادة 5/3 ( لا تتعرض الصحافة للمصادرة او تغلق مقارها الا وفقاً للقانون) المادة 5/4 ( لا يجوز حبس او اعتقال الناشر الصحفي في المسائل المتعلقة بممارسة مهنته عدا الحالات التي يحددها القانون) .. ومعلوم ان كلمة قانون هنا تشمل كافة قوانين الدولة بما فيها القوانين المقيدة للحريات التي اشرنا اليها والتي لم نتطرق لها فيمكن اعتقال الصحفيين ومصادرة صحفهم وفق قانون الامن الوطني والمخابرات بينما يكون السبب الحقيقي هو نقد الصحيفة للحكومة او للمؤتمر الوطني او توعية المواطنين بما يشكل خطورة على مركز المؤتمر الوطني في الانتخابات المقبلة هذا بينما تقوم الصحف التابعة للمؤتمر الوطني مثل (الانتباهة) بنقد الاحزاب والشخصيات وتدعو للعنصرية وللانفصال وتسئ الى رموز الحركة الشعبية دون ان يحدث لها شئ. ولقد اعطى القانون الجديد لمجلس الصحافة سلطات واسعة فهو الذي يملك سلطة الترخيص للشركات الصحفية والصحف ورؤساء التحرير والصحفيين كما يملك سلطات عقابية تصل الى حد ايقاف الصحف عن الصدور وسحب تراخيصها وحرمان اي صحفي من العمل كصحفي فاذا علمنا ان مجلس الصحافة هذا يعين السيد رئيس الجمهوية 40% من اعضائه ويشرف عليه وزير الاعلام ومن ثم يحق له تغيير بعض من بقية عضويته المنتخبة رأينا كيف ان الصحافة بعيدة من ان تكون حرة ومستقلة وبدلاً من ان يرفع قانون الصحافة الجديد الرقابة القبلية عن الصحف قننها واضاف لها مسببات غير مجرد الاعتماد على قانون الامن الذي يصادر بدعوى خشية اثارة الامن جاء في المادة 28/1/ب ( لا تنشر اي معلومات سرية تتعلق بامن البلاد او بالقوات النظامية من حيث الخطط والتحرك). المادة 28/1/ث (ان يلتزم بعدم الاثارة او المبالغة في عرض اخبار الجريمة او المخالفات المدنية) المادة 28 /1/ح( الا ينشر اي امر يتعارض مع الاديان او كريم المعتقدات او الاعراف او العلم مما يؤدي الى اشاعة الدجل) ولم يحدد القانون او يفسر المرجعية لكل هذه الممنوعات التي فرضها بل تركها للتقدير الشخصي وهكذا يمكن ان تستغل هذه الاشياء لتمنع اراء دينية مخالفة لرؤية المؤتمر الوطني وافكاره وتحظر اخبار وتحجب مقالات ويكون الهدف النهائي من كل ذلك هو حراسة مفاهيم المؤتمر الوطني من النقد واضعاف خصومة لضمان فوزه في معركة الانتخابات بالاضافة للقوانين المقيدة للحريات فان قانون الصحافة نفسه يمثل اثقل القيود لانه يملك ان يوقع عقوبات كافية لارهاب الصحفيين وتقييد اقلامهم والحد من تفكيرهم فالعقوبات في قانون الصحافة الجديد نوعان: جزاءات يوقعها مجلس الصحافة: وتشمل التأنيب والزام الصحيفة بالاعتذار والانذار ولفت النظر وايقاف الصحيفة لمدة لا تزيد على 7 ايام او ايقاف الترخيص وعقوبات توقعها محكمة بنص المادة 37 وتشمل: الغرامة التي لا تزيد على 50 الف جنيه سوداني وايقاف الصحيفة لمدة لا تزيد على شهرين والغاء الترخيص ومصادرة المطابع والمطبوعات اذا حكم عليها بالايقاف مرتين مثل هذه العقوبات الرادعة كفيلة تجعل الصحفى يتردد في كل ما يكتب خاصة اذا اراد ان ينقد الحكومة التي لديها بجانب قانون الصحافة قوانين اكثر ردعاً يمكن ان تحركها ضده. ان عدم وجود صحافة حرة يمثل اشكالية حقيقية امام قيام انتخابات ديمقراطية وان اصرار المؤتمر الوطنى على مثل قانون الصحافة هذا يعني حرصه على ان تقوم الانتخابات في جو لا يمكن لخصومه ان ينقدوه فيه بينما ينقد هو خصومه كما يشاء من خلال وسائل الاعلام التي يحتكرها ومن خلال صحفه التي لا تطالها الرقابة ولا يحرك ضدها قانون الصحافة. قانون الانتخابات: ان قانون الانتخابات لسنة 2008م والذي كان من المفترض ان يكون قد وضع لتوجيه مسار الانتخابات حتى تتم بشفافية كاملة وحياد ونزاهة تجعلها تؤدى الغرض منها وهو اختيار حكومة تمثل الشعب وتعبر عن اماله وتطلعاته يمثل في حد ذاته احدى الاشكالات التي تواجه قيام الانتخابات ان اول ما تجب الاشارة اليه هو ان المفوضية العليا للانتخابات والتي انشأت بموجب هذا القانون واوكل اليها بناء عليه كل عمل الانتخابات ليس من حق الحركة الشعبية لتحرير السودان كشريك في الحكومة ولا من حق الاحزاب المشاركة او المعارضة ان تعين ايا من اعضائها فقد جاء في المادة 6 (أ) (تتكون المفوضية من تسعة اعضاء يتم اختيارهم وتعيينهم بواسطة رئيس الجمهورية بموافقة النائب الاول وفقاً لاحكام المادة 58/2/ج من الدستور وموافقة ثلثي اعضاء المجلس الوطني مع مراعاة اتساع التمثيل ليشمل ممثلين للمرأة والقوى الاجتماعية الاخرى) فاعضاء المفوضية يعينهم رئيس الجمهورية ويمكن للنائب الاول ان لا يوافق على احدهم فيتم تغييره ولكن ليس له الحق في اقتراح بديل.. وانما كل الاسماء التي تتكون منها المفوضية يجب ان يختارها السيد رئيس الجمهورية . والسؤال هو: اذا كان هنالك شخص مؤهل ووطني غيور ولكنه ضد المؤتمر الوطني وكثير النقد له فهل يمكن ان يعينه السيد الرئيس في هذا المنصب الهام؟! إضافة الى ان القانون قد نص على ان يكون اعضاء مفوضية الانتخابات مستقلين فقد جاء عن اعضاء المفوضية في المادة 6 (ب) (ان يكون من المشهود لهم بالاستقلالية والكفاءة وعدم الانتماء الحزبي والتجرد) ولقد تم خرق هذه المادة منذ الان وقبل قيام الانتخابات اذ نجد في بعض الاقاليم رئيس مفوضية الانتخابات هو نفسه نائب الوالي وممثل المؤتمر الوطني في المنطقة كما حدث في جنوب دارفور وفي ولاية النيل حيث احتجت الاحزاب بمذكرة رفعت للسلطات وحتى يتضح لنا اهمية وخطورة مفوضية الانتخابات نقرأ في المادة 18/1 (تقوم المفوضية بتكوين اللجان العليا وتعيين روؤساء واعضاء اللجان العليا على مستوى جنوب السودان والولايات) المادة 18/3 ( اللجان العليا مسؤولة لدى المفوضية عن ادارة الانتخابات والاستفتاء والاشراف على ذلك على مستوى الجنوب والولايات) المادة 20/1 (تقوم المفوضية بتعيين ضباط الانتخابات على مستوى جنوب السودان وكل ولاية وضابط انتخابات على مستوى كل دائرة جغرافية للقيام بتنظيم ومراجعة السجل الانتخابي) المادة 20/2 (يقوم كبير ضباط الانتخابات على مستوى جنوب السودان وفي كل ولاية وضباط الانتخابات في الدوائر الجغرافية بتنظيم عمليات الاقتراع والفرز والعد والانتخابات والاستفتاء وفقاً لاحكام هذا القانون والقواعد وتوجيهات المفوضية).. ان المفوضية هي المشرف العام على كل هذه اللجان التي تقوم بكافة العملية الانتخابية فهل يتمتع عضو المفوضية بما يضمن لنا تأهيله الاخلاقي لهذه المهمة الصعبة جاء في المادة 6/2 عن الشروط التي يجب ان تتوفر في عضو المفوضية (الا يكون قد ادين خلال السبع سنوات السابقة في جريمة تتعلق بالامانة او الفساد الاخلاقي او مخالفة السلوك الانتخابي ولو تمتع بالعفو).. فماذا لو كان العضو المذكور قد ادين اخلاقياً قبل ثماني سنوات ؟ هل فرق السنة هذه يكفي ليجعله شخصا ذا اخلاق مأمون على رعاية الانتخابات ؟ ان قضية الشرف والامانة وحسن الخلق يجب ان الا تحدد بوقت معين لأن الزمن لا يسقط هذه التهم المتعلقة بالاخلاق ولعلنا نستغرب ان هؤلاء الاعضاء الذين لا تضمن اخلاقهم الا لمدة سبع سنوات فقط قد منحوا حصانة غريبة جاء في المادة 14 ( حصانة رئيس المفوضية ونائبه والاعضاء) : ( فيما عدا حالات التلبس لا يجوز اتخاذ اي اجراءات جنائية في مواجهة رئيس المفوضية او الاعضاء عن اي فعل يتعلق باداء واجباتهم الموكلة اليهم بموجب احكام هذا القانون الا بعد الحصول على اذن مكتوب من رئيس الجمهورية) وهكذا يعطي القانون اعضاء المفوضية حتى لا يقوم احد بمقاضاتهم لو لاحظ بوجود قرائن انهم ينحازون لصالح حزب الحكومة الا اذا حصل على اذن مكتوب من رئيس الجمهورية!! وهل يأذن رئيس الجمهورية بمقاضاة الذين اختارهم ووضع ثقته فيهم؟

الصادق المهدي لـ(أجراس الحرية):اتفاق التراضي الوطني مات!!(نزعته الرقابة الامنية)



الصادق المهدي لـ(أجراس الحرية):اتفاق التراضي الوطني مات!!(نزعته الرقابة الامنية)

ليس من حق المؤتمر الوطني محاسبتنا على ديننا أو وطنيتنا

إسقاط النظام بالقوة خيار معقد وسوف يرتبط بالنفوذ الأجنبي!

نظرتنا لمراجعة نيفاشا تبدأ بضرورة تأمين حقوق الجنوب

لن نشارك في انتخابات مطبوخة!

فلنعمل لوحدة جاذبة .. أو جوار أخوي.. ولا بد من الاعتذار!!


حوار / رشا عوض


على خلفية التحضيرات لاجتماع القوى السياسية مع الحركة الشعبية في جوبا لبلورة موقف موحد من قضايا الراهن السياسي، وعلى خلفية الضجة الإعلامية المثارة بسبب اتفاق حزب الأمة مع العدل والمساواة، التقينا الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي في هذا الحوار الذي أكد فيه أن القاسم المشترك بين كل اتفاقيات حزبه سواء مع الوطني أو غيره من القوى السياسية هو البحث عن مخرج قومي للبلاد، فإلى مضابط الحوار، *حزب الأمة والقوى السياسية المختلفة الآن بصدد التحضير للاجتماع الذي سيعقد مع الحركة الشعبية في جوبا ماهي الأجندة التي تحملونها إلى ذلك الاجتماع؟- نحن نطرح الآن برنامجا أسميناه (نحو وحدة جاذبة أو جوار أخوي ) وعلى أساس هذا البرنامج نتطلع لعلاقة على مستوى أعمق مع الحركة الشعبية ،
ونعتقد أنه يمكن أن توجد قواسم مشتركة تجمع كل الأحزاب التي ستشارك في ذلك الاجتماع، من جانبنا نرى أن هناك أسباب تجعل الوحدة طاردة ، ونحن نسعى لإزالة هذه الأسباب ونعتقد أن الاتفاق مع الحركة الشعبية يخاطب هذا المعنى المستقبلي ، اتفاقية الأحزاب مربوطة بالوضع السياسي الآني أما مشروعنا نحن فيخاطب المستقبل ولذلك انصب على مسألة الوحدة الجاذبة وكذلك ناقشنا احتمال الانفصال الذي إذا حدث فيجب أن لايؤدي إلى عداء بين الشمال والجنوب ويجب أن لا يؤدي الى تجربة مرة كتجربة أثيوبيا وأريتريا التي علينا أن نتجنبها بكل الوسائل، فمشروع الأحزاب يخاطب القضايا الآنية ، ومشروعنا نحن يخاطب القضايا المستقبلية، وما نتفق عليه في هذه القضايا لن يكون ثنائيا بل نسعى لإقناع الآخرين به على المستوى القومي.
*ماذا عن حواركم ومفاوضاتكم مع المؤتمر الوطني وإلى أين وصل اتفاق التراضي الوطني؟
- اتفاق التراضي الوطني عرف بصورة محددة وتم توقيعه، ولكن مبادرة أهل السودان أصبحت خطوة بديلة له، بالرغم من أننا سعينا لأن تكون تلك المبادرة مكملة له ، ونستطيع القول أن الموضوع برمته قد مات ،لأن فكرة مبادرة أهل السودان كانت حل مشكلة دارفور على أساس قومي ومخاطبة القضايا الأخرى المتضمنة في التراضي ، ولكن هذا لم يحدث بالفعل ، فالتوصيات التي صدرت من ملتقى مبادرة أهل السودان اختلفت عما كنا نتوقع ، وهذا أدى إلى أن لقاءات الدوحة تم التفاوض فيها برؤية المؤتمر الوطني لا برؤية قومية ، ومن ناحية عملية فإن مبادرة أهل السودان نسخت التراضي، واجتماعات الدوحة نسخت مبادرة أهل السودان ، ولذلك نحن نتحدث الآن عن ضرورة الالتزام بمبدأ الحلول القومية للقضايا السودانية ولكن لابد أن يكون ذلك بنظرة جديدة لأن تلك الأطر قد انتهت.
*هل نفهم من ذلك أن فشل تجربة التراضي الوطني جعلكم تتجهون جنوبا الى الإتفاق مع الحركة الشعبية وغربا مع العدل والمساواة ؟
-الفكرة الأساسية في التراضي الوطني هي أن يتم الإتفاق على أسس معينة لحل قضايا السودان تجد تجاوبا من كل القوى السياسية ، فلما نسخ كل ذلك، وجدنا أن كل ما يحدث في الساحة الآن يدل على أن الوحدة أصبحت طاردة ، ويرى أهل الجنوب أن ليست هناك جهة تعمل على تصحيح هذه الأوضاع ومعالجتها ، فكل المحاولات الإصلاحية سواء من الأمريكان أو غيرهم هي محاولات للمصالحة بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، نحن نعتقد أن مثل هذه المصالحات لا تقوم على تشخيص صحيح للمشكلة فكل محاولة تنتهي بمزيد من التباعد ، وفي رأينا أن رهن مستقبل السودان لما يفعله المؤتمر الوطني في علاقته بالحركة الشعبية خطأ ، فهناك ضرورة لأن تلعب القوى السياسية ذات الوزن الشعبي دورها ، فالأسس التي قامت عليها اتفاقية السلام غالبها من اجتهاداتنا ، وقد اتفقنا عليها في مؤتمر نيروبي 1993 م ، ومؤتمر أسمرة للقضايا المصيرية 1994 م، فرغم أننا لم نشترك في مفاوضات السلام إلا أننا حريصون على نجاح السلام الشامل والعادل ،ولذلك لا يجب أن نترك التداول في مستقبل العلاقة بين الشمال والجنوب محصورا في إطار العلاقة بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني فقط ، ولذلك فهناك ضرورة أن نشارك في هذا الأمر باعتبارنا نمثل الشرعية الشعبية والتاريخية ، ونمثل الشرعية الفكرية إذ أن جزءا كبيرا من لبنات اتفاقية السلام من بنات أفكارنا وقد اتضح لنا أن العلاقة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حتما ستؤدي الى وحدة طاردة ، وحتما ستؤدي الى انفصال عدائي ، ولذلك لابد أن نتحرك ونتحدث بلغة تمثل الضمير السوداني وتركز على ما ينبغي عمله لجعل الوحدة جاذبة ، وما ينبغي عمله لجعل الجوار أخويا إذا وقع انفصال ، فهذا واجب وطني لاستكمال عملية السلام التي قامت على أسس أهمها مدنية الدولة ، قبول المواطنة كأساس للحقوق الدستورية ، وقبول التعددية الدينية والثقافية وقبول تقرير المصير كأساس للوحدة الطوعية.

*كيف سيساهم اتفاقكم مع حركة العدل والمساواة في حل أزمة دارفور؟

فيما يتعلق بدارفور فقد أبعدنا من كل عمليات السلام فيها ، فلم نشرك في أي شئ حتى في مبادرة أهل السودان، حيث شاركنا في التحضير ولكن عندما جاء وقت التفاوض استبعدت أفكارنا كما استبعدت ذواتنا ، ولم تظهر أفكارنا ومقترحاتنا في توصيات المبادرة ، وفي دراستنا للمشكلة ابتداء من مفاوضات أبوجا وانجمينا وأديس أبابا ، كان واضحا لنا عدم إمكانية الوصول لحل لمشكلة دارفور في إطار سقوف نيفاشا ، فلا بد من مراجعة هذه السقوف في بنود معينة من أجل تقديم عرض مقبول لحركات دارفور، فالمحادثات التي تجري سواء في سرت أو الدوحة بطبيعتها لن تؤدي إلى اتفاق سلام، لأن المنطلقات التفاوضية وبمباركة دولية تعتمد على مرجعية نيفاشا ، وما توصلنا إليه هو ضرورة الوصول إلى اجتهاد مختلف لنجاح السلام في دارفور، وقد خاطبنا حكماء أفريقيا بهذا المعنى ، واقترحنا عليهم نمطا مختلفا عن المحادثات الحالية ، يعتمد على إعلان مبادئ فيه استجابة لمطالب أهل دارفور لأن كل محادثات دارفور محكوم عليها بالفشل بسبب المنطلقات الضيقة ، وأشرنا الى أن هناك تدهورا في دارفور يؤدي إلى زيادة انفلات الأوضاع هناك بحيث لم تعد المشكلة حرب بين حركات مسلحة وحكومة بينما قامت حرب متعددة الجبهات ، حرب بين الحركات المسلحة فيما بينها ، وحرب بين العناصر غير النظامية المؤيدة للحكومة والعناصر المناوئة ، وحرب مابين القبائل التي كانت بعيدة عن المواجهات العسكرية مثل الحرب بين الرزيقات والمسيرية ، والرزيقات والهبانية ، المهرية والمحاميد ، المهرية والترجم، فأصبحت درجة القتال وعدد القتلى كبير جدا ، وهناك جبهة القتال بالوكالة بين السودان وتشاد ، فخلاصة الموقف في دارفور أن اتفاقيات السلام تمضي في طريق عقيم ، والحالة الأمنية تتجه الى الإنفلات متعدد الجبهات بصورة مريعة جدا ولابد أن تسعى جهة ما لإيجاد مخرج، ولذلك عرضنا أفكارنا في هذا الصدد على حكماء أفريقيا ولا ندري إن كانوا قبلوا بها أم لاوعلى كل حال هم سيقومون بدراسة موقفهم الذي سيرفعونه لمؤتمر القمة، فمبادراتنا في الإتصال بحركات دارفور لا تنحصر في العدل والمساواة بل اتصالاتنا تشمل جميع الحركات وتهدف إلى إقناعهم بمعطيات معينة أهمها عدم النظر إلى مشكلة دارفور كقضية بينهم وبين المؤتمر الوطني بل ينظر لها كقضية قومية وأن لا ينحصر تفكيرهم في مجرد الإطاحة بالأوضاع في الخرطوم بل يقبلوا بالمشاركة في العملية الإنتخابية إذا تم الوفاء باستحقاقات انتخابات حرة ونزيهة والقبول الاستراتيجي بخيار السلام، فالحركات المسلحة الآن تحصر الحل في خيارين الأول : الوصول الى اتفاق مع المؤتمر الوطني وهذا في رأينا غير ممكن ، والخيار الثاني هو الاستمرار في الحرب، نحن ندعو إلى الخيار الثالث وهو القبول بمبدأ أن القضية قومية وهناك إمكانية لمشاركة كل القوى السياسية في الحل والقبول بفكرة التحول الديمقراطي عبر الإنتخابات لأن الإطاحة بالنظام بالقوة خيار له مشاكله وتعقيداته وسوف يرتبط بالنفوذ الأجنبي ولذلك إنقاذا للبلاد من هذا الخيار يجب السعي لخيار وطني ديمقراطي فاتصالاتنا بالحركة الشعبية في الجنوب واتصالاتنا بحركات دارفور هدفها القيام بدور وطني بعد أن تأكد لنا أن الموقف في العلاقة مع الجنوب محصور في خياري وحدة طاردة وانفصال عدائي ، وفي دارفور محادثات عقيمة واستمرار في المواجهات المسلحة إلى ما لا نهاية ولابد من اجتهاد وطني لإنقاذ البلاد من هذه الخيارات الدامية.

· عندما ترددون ان حل قضية دارفور لا يمكن تحت سقوف نيفاشا ،هذا يعني أنكم تطالبون بتعديل في الإتفاقية ، وهذا امر مرفوض من قبل الحركة الشعبية التي تتمسك بالإتفاقية وترى أن لا حل إلا بالتنفيذ الكامل لها وأنتم الآن تسعون لعلاقة استراتيجية مع الحركة الشعبية فكيف توفقون بين هذين الأمرين ؟
-هذا بسيط جدا فكما قلت لك أن اللبنات التي أسست لحقوق الجنوب في الإتفاقية وهي : النصيب في السلطة والثروة واللامركزية وتقرير المصير كأساس للوحدة الطوعية نعتبرها حقوق جنوبية لا يمكن المساس بها بل نحن ندعو إلى تعزيزها بأكثر مما هو موجود في الإتفاقية ، ففي مشروعنا لوحدة جاذبة أو جوار أخوي ، توجد مصالح أكبر للجنوب ، ولكن هناك أمور لابد من مراجعتها وأهمها اعتبار أن المؤتمر الوطني هو الممثل الوحيد للشمال وهذا غير صحيح ولذلك لابد من النظر لعملية السلام في إطار يجعل القوى السياسية في الشمال مأخوذة في الحسبان ، القضية الثانية مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال برؤية المؤتمر الوطني وهي ليست رؤية كل السودانيين فيجب أن تكون رؤية تطبيق الإسلام هي رؤية القطاع الأوسع من المسلمين والتي ستكون الأفضل للأطراف غير المسلمة، مثال على ذلك قضية العاصمة التي يجب اعتبارها ممثلة لكل السودان وليس الشمال ، وهناك أمور ناقصة في الإتفاقية ، فمثلا لا يوجد بروتوكول ديني ينظم العلاقات بين الأديان فيما بينها ، اكتفت الإتفاقية بتناول موضوع علاقة الدين بالدولة فقط وهناك ضرورة لبروتوكول ثقافي، حيث أن هذه الأمور ( الدين والثقافة ) كانت جزءا من أسباب النزاع ، ومثل هذه البروتوكولات تهدف لتأمين مزيد من الحقوق للجنوبي ولغير المسلم ، فنظرتنا لمراجعة الإتفاقية تبدأ بضرورة تأمين حقوق ومصالح الجنوب لأن ذلك الضرورة الحتمية لإنهاء الحرب ، ولكنها تتجاوز ذلك إلى ما يجعل السلام شاملا وعادلا ، فعندما تم توقيع الإتفاقية في 2005م سميت اتفاقية السلام الشامل والعادل وفي ذات الوقت كانت هناك حرب في دارفور ، فنحن نريد التوفيق بين حقوق ومصالح الجنوب وتحقيق سلام شامل وعادل وقد قدمنا للحركة الشعبية شرحا لموقفنا وننتظر رأيها ، فنحن لم نطرح شيئا ينتقص من حقوق الجنوبيين في الإتفاقية بل نطرح ما يجعل السلام عادلا وشاملا.
* بعد اتفاقكم مع العدل والمساواة شن المؤتمر الوطني على حزب الأمة حملة إعلامية شرسة ما تعليقكم على ذلك؟

هجوم المؤتمر الوطني علينا جائر ومبني على افتراض خاطئ هو أن اتفاقنا مع العدل والمساواة يهدف إلى الإطاحة به، وفيما يتعلق بمشروعية الاتصال بالحركات المسلحة فنحن أكثر مسؤولية من المؤتمر الوطني وشرعيتنا السياسية شرعية الانتخاب وهي أقوى من شرعية المؤتمر الوطني المفروضة كأمر واقع، فنحن لنا الحق في أن نعمل على حل مشاكل السودان، وليس صحيحا أننا اعتذرنا لحركة العدل والمساواة عن موقفنا من أحداث أمدرمان فنحن لا زلنا دعاة سلام، ونعتقد أن غالبية الشعب السوداني تؤيد ما فعلناه، فنحن نريد المساهمة في حل مشكلة وصلت إلى طريق مسدود، وقد سبق أن خوننا المؤتمر الوطني عندما دعونا إلى الوحدة الطوعية عبر تقرير المصير، وكفرنا عندما قلنا إن المواطنة أساس للحقوق والواجبات، ونحن لا نهتم بهذه الاتهامات فنحن لا نستأذن المؤتمر الوطني في أمرديننا أو في أمر وطنيتنا، ديننا يحاسبنا عليه رب العالمين ووطنيتنا يحاسبنا عليها الشعب السوداني.


· فيما يتعلق بمسألة التحكيم في أبيي سبق أن صرحتم بأن التحكيم لن يحل المشكلة ، فهل لديكم حل بديل ؟
-نحن نأمل أن يقبل التحكيم ، والقضية في أبيي ليست قانونية فقط بل هي قضية سياسية ونحن نتوقع أن لا يقبل التحكيم والسؤال هنا ما الذي يجب عمله في حالة رفض التحكيم، بروتوكول أبيي فوض لجنة لترسيم الحدود هي لجنة الخبراء التي قالت رأيها ، الذي رفضه المؤتمر الوطني بسبب اعتقاده أن الخبراء تجاوزوا تفويضهم ،والتحكيم ينظر فقط فيما إذا كان الخبراء تجاوزوا صلاحياتهم أم لا وهذه نهاية التحكيم ، مما يعني أن التحكيم لم ينفذ إلى أصل المشكلة ، فقط توقف عند حد هل التزمت لجنة الخبراء بتفويضها أم تجاوزته، وهذا التحكيم وارد جدا أن يرفضه أحد الطرفين والإشكالية أن إطار الحل انحصر في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وفي المنطقة مواطنون لا ينتمون الى الوطني أو الشعبية ولهم رأي ، فنحن نريد أن نبحث في كيفية استقبال القرار بصورة لا تؤدي إلى مواجهات وسنقيم ورشة لذلك ، وقد قلنا ولا زلنا نقول يجب أن تكون هناك قوة دولية لحفظ الأمن كإجراء وقائي عندما يصدر القرار حتى لا يكون هناك مجال لانفعالات، ولا بد أن يكون هناك مجهود لحث السكان في المنطقة على التعاطي مع نتائج التحكيم بصورة إيجابية حتى لا يلجأ من جاء التحكيم ضدهم الى العنف ولا يلجأ من جاء التحكيم لصالحهم لوسائل المباهاة والمفاخرة ، فنحن نهدف لإيجاد طريقة لاحتواء هذا الموضوع في حال الخلافات عبر إجراءات تصالح قبلية تحول دون تدهور الأوضاع .


*حددت مفوضية الإنتخابات أبريل المقبل موعدا لإجراء الإنتخابات ، ما تقييمكم لمدى ملاءمة المناخ السياسي الحالي لإقامة انتخابات حرة نزيهة ؟
- نحن الحزب السياسي الوحيد الآن الذي ليست له أية مشاركة في السلطة التنفيذية أو التشريعية في الدولة على أي مستوى ، وبالتالي نحن أكثر القوى السياسية مصلحة في قيام الإنتخابات لأننا رهنا مشاركتنا في السلطة لقيام انتخابات حرة نزيهة .
فلا شك أننا نعتبر الانتخابات الوسيلة الوحيدة للتداول السلمي للسلطة، ولكن بالطبع لا يمكن إقامة انتخابات حقيقية دون استحقاقات، ومن استحقاقات الحد الأدنى لإقامة الانتخابات في السودان الاتفاق على نتائج التعداد السكاني، والاتفاق على الحدود، وكفالة الحريات، وضمان حيدة أجهزة الدولة أثناء الانتخابات، والاتفاق على آليات مراقبة، وهناك استحقاق مهم جدا وهو إحلال السلام والأمن في دارفور حتى نتمكن من إجراء انتخابات في كل ربوع السودان، فالانتخابات في مناطق كثيرة مثل كينيا وزمبابوي ونيجريا وغيرها كانت سببا لانفجارات لاختلاف العناصر المتنافسة فيها على نزاهتها، ولذلك لا بد من الاعتراف بأن تأخر التعداد السكاني عامين عن زمنه المحدد كان خطأ كبيرا، والاعتراف بأن كل الإجراءات المرتبطة بالانتخابات حدث فيها تأخير مريع جدا، فأصبحنا الآن في حالة سباق مع الزمن، المؤتمر الوطني يرغب في إجراء الانتخابات على أي حال ودون استحقاقات وهذا ما اعتادوا عليه طيلة الفترات السابقة، نحن في حزب الأمة نعتقد أن الاستحقاقات السابقة لا بد أن تدفع، هل دفعت هذه الاستحقاقات وهل الزمن المتبقي من الآن إلى شهر أبريل كاف لدفعها.. هذا ما سنقوم بتقييمه، ونحن في حالة تحضير واستعداد للانتخابات وقد كان مؤتمرنا السابع جزءا من التحضير لها كما نواصل حملاتنا في مختلف مناطق السودان، فإذا دفعت الاستحقاقات المطلوبة فنحن نعتبر أنفسنا من أكثر الأحزاب استعدادا، أما إذا لم يحدث ذلك ليس لدينا استعداد للمشاركة في انتخابات مطبوخة.

* إذا انتقلنا إلى الشأن الداخلي في حزب الأمة هل صحيح أن هناك نذر انقسام في الحزب وإلى أين وصلت مساعي رأب الصدع؟

أعتقد أن المؤتمر السابع لحزب الأمة كان مؤتمرا ممتازا ولم يعترض أحد على شرعية المؤتمر لا من حيث استحقاق المؤتمرين أو أجندة المؤتمر أو إجازة الدستور والبرنامج وانتخاب الرئيس، فالمؤتمر جاء تتويجا لآلاف المؤتمرات القاعدية، فنجح المؤتمر العام السابع لحزب الأمة في تجديد البرنامج والدستور وتجديد في 75% من المناصب القيادية العليا، وتحقيق التوازن الجهوي والعمري والنوعي في أجهزة الحزب التشريعية والتنفيذية وهذا أقصى ما يطلب تحقيقه من أي حزب، نشأ الاختلاف حول الإجراءات التي اتخذتها الهيئة المركزية، والإشكال الذي حدث لو تم التعامل معه بصورة موضوعية سوف يحسم، أما إذا سادت فيه النظرة الذاتية فيمكن أن يؤدي إلى انشقاق أو خروج لبعض الأفراد من الحزب، ولكنني شخصيا أعتقد أن غالبية الأعضاء الذين لديهم تحفظات على ما حدث في المؤتمر سوف ينأون بأنفسهم عن الانقسام أو الانشقاق ويقبلون على التسوية السياسية، ولكن وارد جدا أن تتجه مجموعة إلى خيار آخر، وحزب الأمة ككائن حي معرض لدفع أثمان وتكاليف الحياة وهذه بعضها، وأنا شخصيا قصدت أن أبتعد عن هذا الخلاف وأترك أجهزة الحزب تتفاعل فيما بينها حتى تكتسب نضجا وتجربة، ولكنني بعد أن عدت إلى البلاد سأجتهد في المعالجات فما يمكن علاجه سيعالج وما لا يمكن علاجه قد يؤدي إلى خروج البعض، وليكن! فنحن مواقفنا السياسية والفكرية سوف تكسبنا أعضاء جدد مهما فقدنا.


* الآن تبقى على تقرير المصير أقل من ثمانية عشرة شهرا هل هذا الزمن من الناحية العملية كافيا لإنجاز برنامج يحافظ على الوحدة ويحقق التحول الديمقراطي؟

ضيق الزمن هو الذي جعلنا نتحدث عن برنامج للجوار الأخوي، فكل الظروف الموجودة حاليا تجعل من الوحدة طارة ولذلك يمكن أن يؤدي الاستفتاء إلى انفصال، فالزمن ضيق جدا وفجوة الثقة كبيرة جدا والغبن المتراكم كبير جدا، ربما تنجح اتصالاتنا بالحركة الشعبية في ترجيج خيار الوحدة، فوحدة الجاذبة هي خيارنا الأول ، ولكن إذا لم تتحقق فعلينا العمل من أجل الجوار الأخوي، ونحن في حزب الأمة بادرنا بالدعوة لاعتذار الشمال للجنوب، ولم نقصد بذلك الاعتذار السياسي لأن الأخطاء السياسية متبادلة، ولكننا نقصد الاعتذار عن الاستعلاء العرقي والثقافي المتوارث من عهود الرق، فهناك ربط خاطئ بين اللون الأسود والاسترقاق، وفي هذا اساءة بالغة للسحنات السودانية المختلفة، فالرق ممارسة تاريخية ظالمة مرتبطة بالحروب ولا ترتبط بلون معين ففي أوروبا مثلا كانت الشعوب السلافية تسترق، فلا بد لنا من اعتذار يزيل ما في النفوس من غبن واحتقان.

مسالة (نزعته الرقابة الامنية)


مسالة (نزعته الرقابة الامنية)

د . مرتضى الغالي


مؤتمر القطاع الاقتصادي للمؤتمر الوطني ان يكون صريحاً مع نفسه ومع الناس؟! وهل يستطيع ان يتحدّث بصراحة عما يدور في المجال الاقتصادي والاستثماري والنقدي في السودان..؟ أم انه مؤتمر يُعقد للتبريكات و(تناول المخبوزات) من جملة المظاهرالحزبية الانتخابية لمؤتمرات القطاعات المختلفة.. والسلام عليكم..؟ هل يستطبع هذا المؤتمر ان يواجه الحقيقة ويضع يده على ازمة السودان الاقتصادية؟ وهل يستطيع ان يقول ان هناك أفراد من (الكيان الجامع) يحصلون على الامتيازات والتوكيلات والأراضي والمزايدات والمناقصات والعطاءات (كيفما يشاءون) ومن غير أن ينافسهم أحد..؟؟هل يستطيع هذا المؤتمر القطاعي ان يتكلم بمظالم التجار والاقتصاديين الذين تمّ اخراجهم من سوق الله اكبر ركلاً وطرداً بواسطة (أباطرة جُدد) يجدون شفاعتهم عند التلويح بالانتماء السياسي..؟ وهل يستطيع المؤتمرون الاشارة الي سياسة (الإبدال والإحلال) في دنيا الأعمال حتى لا يكون لغير المنتسبين للمؤتمر الوطني اي موقع مؤثر في عالم التجارة والمال..!هل يستطيعهل يستطيع المؤتمرون ان يتحدثوا عن (النوع الجديد من البزنس) الذي أصبح يرتبط بأصحاب القرابة لرموز الكيان الجامع الذين ظهروا فجأة..ولكن لا احد يستطيع ان (يدوس لهم على طرف) وأصبحوا يغرفون من الامتيازات والأموال والمخصصات والتسهيلات لمجرد قرابتهم.. ولا شأن لهم بحديث الرسول الكريم الذي يمنع الاختباء خلف القرابة ويقول بكلام واضح و(بالقسم المغلظ كمان) لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها..!هل يستطيع مؤتمر القطاع الاقتصادي للمؤتمر الوطني ان يعترف بسؤ ادارة المال في السودان، وضعف الرقابة عليه، وعدم انفاذ القانون بالتساوي على جميع اللاعبين في الميدان الاقتصادي؟ وعدم ملاحقة من تطالهم تقارير المراجع العام وفرق المراجعة الداخلية..؟؟ وهل يستطيع المؤتمرون الإقرار بأن المواطنين المساكين مبعدين عن مائدة الثروة في السودان؟ وان المسؤولين لا يحاسبون اذا بدرت منهم الهفوات والتجاوزات الإدارية الجسيمة، دعك من شبهات الفساد في دورة المال، أو بناء العمارات، أو ادارة مصارف الزكاة...! قد يكون بمقدور المؤتمر ان يقول ذلك ولكننا لم نر اثراً لمراجعة كل هذه (الاوضاع المايلة) رغم الإشارة التي جاءت من نائب رئيس المؤتمر الوطني بإنتفاء واختفاء معايير العدالة في ادارة الاقتصاد (ومن يدير الاقتصاد الآن غير المؤتمر الوطني؟؟) فقد قال ما معناه ان الاقتصاد يجب الا يكون محتكراً لفئة وان لا يكون خاضعاً للحظر والتضييق والتمييز بين فئات وافراد المجتمع، بل يكون متاحاً للكافة من منطلق شراكة كل الشعب في الموارد..!ولكن أين ذلك من أداء إقتصاد المؤتمر الوطني؟! أو كما كان يغني الفنان الكبير احمد المصطفي: (أين منّا الأمس أينا... والمنى والحب أينا)..؟!!

الأربعاء، 19 أغسطس 2009

المزايدة !!


المزايدة !!
منع من النشر
د.عمر القراي
لاشك أن محاولة اختطاف أطفال ، من معسكرات اللاجئين في تشاد ، أو دارفور، بغرض ترحيلهم إلى فرنسا ، دون استشارة ذويهم، اعتداء سافر، على حريتهم ، وخرق للقوانين الدولية ، وهو من ثم ، جريمة بكل المقاييس، لا يمكن ان تبرر ، بادعاء توفير حياة أفضل لهم ، في أي مكان خارج وطنهم ، ولهذا فان هذا العمل الأخرق ، يستحق الشجب والإدانة والعقوبة .. ولقد أدانت حكومة السودان هذا العمل فقد جاء (طالبت الحكومة بتحقيق دولي في قضية محاولة اختطاف أطفال من دارفور عبر تشاد واستنكرت بشدة موقف الرئيس الفرنسي تجاه القضية ) ( السوداني 6/11/2007م ) .. والقضية لا زال يكتنفها الغموض ، والتحقيق لم ينته بعد ، والجريمة أحبطت قبل ان تتم ، وهوية الأطفال لم تحدد تماماً فقد جاء ( وقال مسئول تشادي مقيم في باريس إن التحقيقات أثبتت أن 98% من الأطفال الذين تم حجزهم في ابشي بالشرق عقب إحباط اختطافهم يحملون الجنسية التشادية) (المصدر السابق ) ..

ومع ذلك أدانت الأمم المتحدة هذه الجريمة ، وقالت في بيان لها ( دعماً للتصريحات الأخيرة من جانب الأمم المتحدة بما في ذلك البيان المؤرخ 26 أكتوبر من قبل منظومة الأمم المتحدة في تشاد والبيان الصادر مؤخراً من المديرة التنفيذية لليونيسيف آن فيتمان ، فأنني أدين بشدة الإجراءات التي اتخذتها منظمة " آرك زو " في محاولة لترحيل الأطفال من تشاد . مثل هذه الأعمال تتنافى من كل القوانين والمعايير الدولية عن حركة الأطفال وتشكل تعدياً على المبادئ الإنسانية التي نحن نرمز إليها كأمم متحدة . فمن غير المقبول أن نرى أطفالا يؤخذون من بلادهم دون الامتثال للقوانين الوطنية والدولية . والأمم المتحدة حالياً تساعد على التعرف على هؤلاء الأطفال ومواطنهم حتى يتسنى إعادة جمع شملهم ) ( الأمم المتحدة 5/11/07م) ..

ورغم أن تشاد قامت بإحباط الجريمة ، قبل وقوعها ، إلا أنها لم تسلم من الاتهام ، فقد جاء ( ألمح وزير العدل محمد علي المرضي إلى احتمالات تورط انجمينا في أزمة ترحيل الأطفال من دارفور إلى فرنسا ... وقال المرضي في تصريحات صحفية أمس إن هناك علامة استفهام كبيرة تتعلق بتشاد سيما فيما يتصل بوقوف طائرة ضخمة بمدرج المطار لنقل الركاب بطريقة تخالف النظم المتبعة لحركات الطائرات وأضاف " لابد أن يكون هناك مساعدات من أبشي") ( الأحداث 8/11/2007م ).. وبدلاً من أن ينتظر المسئولون نتائج التحقيقات ، سارعوا بالتصريحات فقد جاء ( أكدت وزيرة الرعاية الاجتماعية سامية أحمد محمد ان قضية أطفال دارفور المختطفين كشفت التحريات أن بها عدد من الأبعاد وليس بينها البعد الإنساني والقضية " تجارة رقيق" ) !! ( السوداني 6/11/2007م ) .. ولقد كثف الإعلام الحكومي ، ومنتسبي المؤتمر الوطني التركيز على هذه القضية ، ووظفوا لها الإعلام ، وجعلوها شغلهم الشاغل ، وعزلوا بها الشعب ، ان يستمع او يعلق على غيرها من القضايا ، وأقاموا الندوات الرسمية وغير الرسمية ، حول هذا الموضوع ، وكأنها المرة الأولى ، التي يحدث فيها أمر مماثل في السودان ..

وقد أقام مركز دراسات المجتمع، بالتعاون مع المجلس القومي لرعاية الطفولة ندوة بعنوان " تهريب وبيع الأطفال " في 5/11/2007م بقاعة الزبير للمؤتمرات !! رغم ان البيع مجرد ظنون والتهريب نفسه لم يتم .. ولقد تحدث في الندوة د. سعيد عبد الله سعيد وكيل وزارة الرعاية الاجتماعية ( وخلص إلى أن هؤلاء الأطفال سيتم الاتجار بهم للقيام بأعمال إباحية فاضحة أو تجارة أعضاء أو غير ذلك. وتكهن بان الهدف ربما كان تنصير هؤلاء الأطفال واستخدامهم لتنصير كل المنطقة ) ( الرأي العام 8 /11/2007م) .. ولم يسأل أحد في ذلك الجو المشحون بالتوتر العاطفي والتعبئة المقصودة كيف عرف السيد الوكيل كل هذا والعملية نفسها لم تتم ؟!

إن السؤال الذي لابد من إثارته هو : لماذا أسرفت الحكومة ، وأعضاء المؤتمر الوطني ، على أنفسهم وعلى المواطنين ، في شجب جريمة أطفال دارفور التي لم تتم ، وصمتوا عن جريمة أطفال دارفور التي تمت ، واستمرت لسنوات ، ولولاها ما اضطر هؤلاء الأطفال للتواجد في معسكرات اللاجئين بتشاد وبدارفور ؟! لقد شهد العالم بان آلاف المواطنين ، أحرقوا داخل قراهم ، بواسطة الجنجويد الموالين للحكومة، ومعظم هؤلاء من الاطفال ، فلماذا لم نسمع أن مسئول حكومي أدان الجنجويد ، أو طالب باعتقالهم والتحقيق معهم ؟! ولماذا يقم المؤتمر الوطني ، تحت أي جمعية أو مركز من تلك المؤسسات العديدة التي يترأسها الإسلاميون بإقامة ندوة تدافع عن أطفال دارفور، الذين قتلوا بعد اغتصاب أمهاتهم أمام أعينهم ، وتندد بهذه الأعمال البشعة ، وتصفها بالبعد عن الدين والخلق ، كما وصفت محاولة الاختطاف بواسطة الجمعية الفرنسية ؟!

لقد طالب المسئولون الأمم المتحدة ، والمحكمة الجنائية الدولية ، بالتدخل بل اتهمها بعضهم بازدواجية المعايير ، فهل كانت الحكومة سترحب بما تتوصل إليه المحكمة الجنائية الدولية ؟! لقد سبق أن ذكرت تلك المحكمة ، تورط اثنين من السودانيين ، في جرائم الحرب في دارفور، فلم تسلمهم الحكومة للتحقيق معهم ، رغم انها لم تستطع أن تنفي ماورد ضدهم من اتهامات !!

فقد ذكر المدعي العام ، للمحكمة الجنائية الدولية ، ان السيد أحمد هارون، بوصفه وزير دولة ، في وزارة الداخلية ، آنذاك ، قد كان المكلف بإدارة مكتب دارفور الأمني .. وان كافة لجان الأمن ، والشرطة ، والمتعاونين معها ، من مليشيات الدفاع الشعبي ، بما فيهم الجنجويد ، قد كانوا تحت إمرته . وكان هو الذي يوفر لهم السلاح ، والعتاد ، والذخيرة من ميزانية مفتوحة لا تخضع لأي رقابة ، وهو الذي يخاطب هذه القوات في الاجتماعات ، ويقوم بتوجيههم ، ويطير من حين الى آخر ، الى مواقع العمليات ، يحمل أموالاً نقدية طائلة ، يدفعها لهم كمرتبات وحوافز. ولقد قدمت شهادات متكررة ، على وجوده في مناطق العمليات، وتوجيهه بالاعتداءات التي وقعت على الأبرياء والعزل ، من الكبار، والنساء ، والأطفال . فهذه القوات قد قتلت آلاف الأطفال مما لا يمكن ان يقارن بجريمة المنظمة الفرنسية التي لم تتم . وعن الاتهامات التي وجهت لعلي كوشيب ذكر المدعي العام ، انه قد شوهد يطلق النار، على نساء يحملن أطفالهن !! وانه كان يقود هجوم الجنجويد ، ويصدر التعليمات بالقتل ، والحرق ، والنهب. وانه كان حاضراً في زي عسكري موجهاً للهجوم على مدينة " بنديسي" ، التي دمرت تماماً وحرقت متاجرها وقتل فيه 100 شخص منهم حوالي 30 طفلاً . وانه شارك في إعدام 32 رجلاً عام 2004 م ، وأمر باغتصاب عدد من النساء ، ربطن على الأشجار، في ديسمبر 2003 م ، في قرية " أرولا" . وان العشرات من الضحايا قد شهدوا بمشاركته في تعذيبهم .
فإذا كانت الحكومة لا تسلم مثل هؤلاء الذين قتلوا بني جلدتهم من أبناء دارفور للتحقيق والمحاسبة ، فهل يصدق عاقل ، أن مايثيره أعضاء المؤتمر الوطني ، الآن ، حول محاولة اختطاف أطفال دارفور توجهه دوافع نبيلة من الحرص على أطفال دارفور، ومناصرة المظلومين ، وإحقاق الحق ؟!

د. عمر القراي

محاكم التفتيش !!


محاكم التفتيش !!
منع من النشر
د.عمر القرايٍ
في عهود الظلام والقهر والاستبداد والعجز الفكري والخلقي نشأت محاكم التفتيش في أوربا في القرون الوسطى وكانت باسم الدين المسيحي تنتهك الحريات وتقتل وتسجن الأبرياء وتحرق وتصادر الكتب في مواجهة للفكر بالبطش وللرأي بالقهر وللكلمة بالمقصلة .. ولقد مرت حقب طويلة على البشرية وهي تعاني في كل بلد من أنموذج من نماذج محاكم التفتيش .. ولقد خلد التاريخ أسماء العلماء والفلاسفة والمفكرين والأدباء الشرفاء الذين كانوا ضحايا محاكم التفتيش ولم يحفظ لنا اسم أي قزم من رجال الدين أو رجال الأمن أو الجنود الذين كانوا يبطشون بالأحرار ويمارسون تعذيبهم ويهللون فرحاً للنيران وهي تلتهم الكتب وتقضي على المعرفة ..
لقد نقلت الصحف فشل معرض الكتاب في معرض الخرطوم الدولي ، وعزى بعضهم ذلك لإدارته وتنظيمه والإعداد له ، وعندنا ان الفشل الحقيقي والفضيحة الكبرى تمثلت في مصادرة أفكار الأستاذ محمود محمد طه في محاولة مدبرة تستهدف الإصرار على حجب الفكر الجمهوري عن المواطنين .. ولسائل أن يسأل لماذا تصادر أفكار الجمهوريين بينما غيرهم من الأحزاب والمنظمات والجماعات تقيم نشاطها علناً في دورها وتحت سمع وبصر السلطة وقد تنقد الحكومة وحزبها وسياساتها بأكثر مما يفعل الجمهوريون ؟!
للجمهوريين الحق في التعبير عن أفكارهم بحكم القانون والدستور:
وربما ظن أحد المسئولين في جهاز الأمن أو احد السياسيين الموجهين لهذه الأجهزة أن الفكر الجمهوري فكر ممنوع بحكم قضائي وان آخر ما صدر في حقه هو قرار محكمة الاستئناف الذي قضى بإعدام الأستاذ محمود ومصادرة فكره في يناير 1985م !! فإذا صح ذلك فانه جهل مطبق لا يؤهل صاحبه لأن يكون مسئولاً حتى عن نفسه دع عنك أن يكون مسئولاً عن أمن هذا البلد .. وذلك لأن الحكم الجائر الذي قضى به قضاة الرئيس المخلوع قد تم إبطاله تماماً بواسطة المحكمة العليا الدائرة الدستورية ، بل أن النائب العام الذي يمثل الاتهام قد أودع رده على مذكرة الدفاع كتابة يوم 20/4/1986م وجاء فيه ( 1- نعترف بان المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيد بإجراءات القانون . 2- إن المحاكمة إجهاض كامل للعدالة والقانون . 3- لا نرغب في الدفاع إطلاقا عن تلك المحاكمة ) .. ولقد جاء في حيثيات ذلك الحكم التاريخي (على انه يجمل القول ، ومهما كان وجه الرأي فيما يتعلق بتلك العيوب ، انه يبين من مطالعة إجراءات محكمة الاستئناف الجنائية تلك ، انها انتهجت نهجاً غير مألوف وأسلوبا يغلب عليه التحامل مما جعل الاطمئنان الى عدالة حكمها أمراً غير ميسور وعرضة للمعايير السياسية التي لا شأن لها بالأحكام القضائية ) ويمضي ليقول ( على أن محكمة الاستئناف ، وفيما نوهنا به ، اشتطت في ممارستها سلطتها على نحو يستحيل معه الوصول إلى حكم عادل تسنده الوقائع الثابتة وفقاً لمقتضيات القانون . ويبين ذلك جلياً بما استهلت به المحكمة حكمها حين قالت " ثبت لدى محكمة الموضوع من أقوال المتهمين ومن المستند المعروض أمامها وهو عبارة عن منشور صادر من الأخوان الجمهوريين أو المتهمين يدعون فهماً جديداً للإسلام غير الذي عليه المسلمون اليوم ..الخ " وبمراجعة المستند المشار إليه وأقوال المتهمين التي أدلوا بها أمام المحكمة الجنائية لا نجد سنداً لهذه النتيجة الخطيرة التي نفذت إليها محكمة الاستئناف مما يكشف عن حقيقة واضحة هي ان المحكمة قد قررت منذ البداية أن تتصدى بحكمها لفكر المتهمين وليس لما طرح أمامها من إجراءات قامت على مواد محددة في قانون العقوبات وأمن الدولة وأدى إلى تحريكها صدور منشور محرر في عبارات واضحة لا تقبل كثيراً من التأويل ..... ولعلنا لا نكون في حاجة إلى الاستطراد كثيراً في وصف هذا الحكم ] حكم محكمة المكاشفي[ فقد تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثاً ومتعارفاً عليه ، أو ما حرصت قوانين الإجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليها صراحة ، أو انطوى عليه دستور 1973م الملغي رغم ما يحيط به من جدل ...) إلى أن ليقول ( ولم تكتف المحكمة في مغالاتها بهذا القدر وإنما تعدته إلى الاستدلال بقرارات وآراء جهات لا سند في القانون للحجية التي أضفتها المحكمة على إصداراتها) .. ولقد خلصت المحكمة بعد حيثيات مطولة مرصودة في مجلة الأحكام القضائية إلى ( وعلى هدى من ذلك تقرر هذه الدائرة ما يلي : إعلان إبطال الحكم الصادر في حق المواطنين محمود محمد طه والمدعي الثاني في هذه الدعوى من المحكمة الجنائية ومحكمة الاستئناف ......) .. فإذا كان هذا هو الوضع القانوني الذي صدر عن أعلى سلطة قضائية في البلاد وهو يبرئ الأستاذ محمود من تهمة الردّة وكل التهم تحت طائلة أمن الدولة ويبرئ من ثم فكره من المصادرة فلماذا أصر رجال الأمن على مصادرة هذا الفكر خلافاً لرأي القضاء الذي يجب أن يحترم في دولة القانون ؟!
أما دستور جمهورية السودان الانتقالي لعام 2005م فقد نص في المادة (1) على التالي( جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة ، وهي دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان ) وجاء في المادة (6) (تحترم الدولة الحقوق الدينية التالية : (أ) العبادة والتجمع وفقاً لشعائر أي دين أو معتقد ، وإنشاء أماكن لتلك الأغراض والمحافظة عليها (د) كتابة وإصدار وتوزيع المطبوعات الدينية ). فلو أن الجمهوريين يدعون إلى دين أو معتقد مختلف من الإسلام لحق لهم وفق الدستور أن يمارسوا شعائرهم ويطبعوا ويوزعوا كتبهم ونشراتهم ، دون ان يكون لجهاز الأمن او أي جهاز آخر حق مصادرة هذه الكتب .. فكيف يكون الحال وهم يدعون الى الإسلام بل الى الفهم الصحيح له ..
حادثة ود البخيت :
لقد بلغت الجرأة برجال الأمن أن يصادروا معرض كتاب ولوحات معلقة بها مقتطفات من مؤلفات الأستاذ محمود من داخل منزل مواطن بقرية ود البخيت في ضواحي أمدرمان !! إن المهندس عبد الله فضل الله لم يعلن عن معرضه في الإذاعة والتلفزيون ولم يعلقه في الساحة المجاورة لبيته بل وضع الكتب واللوحات داخل صالون البيت وعلق اللوحات على الجدران ومع ذلك اقتحم رجال الأمن المنزل واعتقلوا الأخ عبد الله لمدة 5 أيام واجبروه على التردد لجهاز الأمن لأسبوعين بعد ذلك .. ولقد تم في ذلك الاقتحام مصادرة حوالي 300 كتاب و80 لوحة كبيرة وكمبيوتر شخصي .. وقد يقول قائل ان هذا الظلم قد حدث قبل اتفاقية السلام لأنه جرى في عام 2003م ، ولكن الأخ عبد الله قد رفع عرائض يطالب فيها بان ترد له ممتلكاته بعد اتفاقية السلام وفي ظل الدستور الانتقالي الحالي دون جدوى ..
إن الرسالة التي اوصلها رجال الأمن هؤلاء لكل أهل عبد الله وجيرانه هي أن المواطن ليس آمناً داخل بيته ولقد درج الناس على الاحتياط للحرامية الذين يتسورون البيوت ليلاً ليسرقوا أموالهم وحليهم فعليهم الآن أن يحتاطوا لنوع آخر من السلب والنهب لا يقوم به الحرامية وإنما يقوم به رجال واجبهم هو حماية المواطنين والحفاظ على أمنهم !!
إن الوضع الجديد الذي تعيشه البلاد وترفض مجموعة من رجال الأمن عملياً الاعتراف به هو حكومة الوحدة الوطنية التي قامت على أساس اتفاقية نيفاشا والدستور الانتقالي لعام 2005م ولقد جعل هذا الدستور الشرعة الدولية لحقوق الإنسان مرجعاً أساسيا من مراجعه .. ولقد حوت كافة مواثيق حقوق الإنسان التي تضمنتها الشرعة الدولية حق المواطنين في التعبير عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم بكافة الوسائل ما داموا يفعلون ذلك بصورة سلمية وحضارية .. وطوال حركة الجمهوريين لم يحدث ان اتهمهم جهاز الأمن بمؤامرة تخريبية أو تهمة لها علاقة بأي مستوى من العنف فلماذا يمنعون فكراً يسنده سلوك رصين من الخلق الذي يتجافى عن كل ما يضر بالآخرين ؟!
إن جهاز الأمن من حيث هو جهاز متخصص هدفه حماية أمن الدولة ليس لديه مشكلة مع الجمهوريين ولكن جماعة الإسلام السياسي خصوم تقليديون للفكر الجمهوري وقد جربوا الحوار معه لفترات طويلة وخرجوا من كل تلك الحوارات بخسائر لا يودون تكرارها فهم يخشون على قاعدتهم من الفكر الجمهوري ولذلك لا يريدون له أن يرى النور .. ولما كانت حكومة الإنقاذ فرصة تسلقوا فيها إلى مفاصل السلطة فقد افلحوا في تسييس جهاز الأمن وتسخيره بإمكانيات الحكومة وأموال دافع الضرائب لمواجهة الأفكار التي يخشون مواجهتها في منابر حرة يستمع إليها الشعب لمصادرتها وكتمانها دون ان يكون الشعب أو منظمات حقوق الإنسان العالمية على علم بذلك ، وما مصادرة الكتب والمعارض والغاء الندوات الا خطوات في هذا الطريق الشاذ الذي لا ينسجم مع التوجه العام للحكومة ..
توجهات الحكومة :
لقد وجدت دعوة جمع الصف الوطني ترحيباً وتقديراً من السيد رئيس الجمهورية ، ولقد أبدى سيادته رحابة صدر مشهودة في تقبل كل المخالفين بل انه في إحدى تلك اللقاءات نقلت عنه الصحف سؤاله للسيد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني عن موعد انعقاد مؤتمر الحزب وإبداء الرغبة في حضوره !! ان هذا الروح الطيب بقبول الخلاف والتصريحات المتكررة من الإصرار على تنفيذ اتفاقية السلام والالتزام بالدستور والتحول الديمقراطي ومحاولة إشاعة روح المصالحة الوطنية بين الحكومة وكافة التنظيمات ومختلف الجماعات ومخاطبة مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي لتجاوز التعصب والتكفير مما ظهر من رئاسة الجمهورية في الآونة الأخيرة ليتناقض تناقضاً سافراً مع ما يقوم به جهاز الأمن من مصادرة كتب الجمهوريين ومعارضهم وإلغاء ندواتهم العامة ومحاضراتهم .. ونحن هنا لا نقدم رجاء للسيد رئيس الجمهورية وإنما نطالب بحق الجمهوريين في ان يعاملوا كما تعامل الأحزاب والجماعات الأخرى وان ترد إليهم الكتب التي صودرت منهم بغير وجه حق ويسمح لهم بممارسة حقهم الطبيعي في التعبير عن أفكارهم .. هذا وستظل مقدرة الإسلاميين من مسئولين وغير مسئولين على إنصاف الجمهوريين المحك الحقيقي لقياس صدقهم تجاه الديمقراطية والحريات كما أن المنع والمصادرة والقهر ستؤخذ مؤشرات على التراجع من المواثيق الدولية والاتفاقيات المحلية ثم إنها في نهاية المطاف لا يمكن أن تقضي على الفكر .

د. عمر القراي

محنة الوطن !!


محنة الوطن !!
منع من النشر
د.عمر القراي
( فلما نسوا ما ذكروا به ، فتحنا عليهم أبواب كل شئ ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا ، أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) صدق الله العظيم

المواطن السوداني البسيط ( في الشمال) ، الذي وسط معانات توفير حاجيات شهر رمضان ، وجد فجأة ان سعر دقيق الخبز قد زاد ، كما زاد سعر السكر، والبنزين من قبل ، وما تبع ذلك من ارتفاع في كل السلع .. المواطن السوداني البسيط ، الذي يعجز عن دفع إيجار منزله ، ودفع فاتورة الكهرباء ، وتعليم أطفاله بسبب الرسوم ، رغم جعجعة الحكومة ، بمجانية التعليم .. المواطن السوداني البسيط الذي لازال يموت في دارفور قتلاً ، ويتضور في المعسكرات في تشاد وفي اطراف الخرطوم ، جوعاً ، ولا تستطيع الحكومة ، ولا القوات الأفريقية حمايته ، ومساعدته .. المواطن السوداني البسيط الذي يعاني الفشل الكلوي ، والسرطانات ، وكافة الأوبئة ، التي انتشرت ، والدولة عاجزة ازائها .. المواطن السوداني البسيط ، الذي خدم الوطن عشرات السنين ، ثم فصل سياسياً ، وتعسفياً ، حتى ينعم شخص ( إسلامي ) ، بوظيفته ، من باب (التمكين) ، ثم وعد مع من وعدوا ، بارجاع المفصولين، ولا يزال ينتظر هذه الخدعة ، على الرصيف .. المواطن السوداني البسيط ، الذي انتزعت عنه أرضه ، وهجر منها قسرياً ، بدعوى إقامة خزانات ، لم تسبقها دراسات ، ولم يشرح له جدواها ، وحين احتج على هذا الظلم الكالح ، ضرب بالرصاص دون رحمة ، وسجن دون محاكمة .. المواطن السوداني البسيط الذي يلتفت يمنة ويسرى ، فيرى الإعلانات عن العام الثامن لتصدير البترول، ولا يرى لذلك اثر في حياته ، بل يزيد سعر المواصلات ، التي أصبح يلهث وراءها ، من مكان لآخر ، وهو يرى بعينيه عائدات البترول ، عربات فارهات ، وقصور شامخات ، ينعم بها قادة النظام ، وذويهم ، ومحاسيبهم .. وحين استبشر هذا المواطن الطيب ، بتصريح المراجع العام الذي ذكرفيه وجود الفساد ، في حكومة الشمال ، لم ير محاسبة ، ولا مساءلة ، لجموع الفاسدين من ذوي المناصب التي لا حصر لها ، وبدلاً من المحاسبة ، انشغلت الحكومة ، بان تحدثنا عن الفساد في حكومة الجنوب ، مع أن حكومة الجنوب لم تنكر الفساد ، بل قامت بتحقيق ومحاسبة .. فماذا فعلت حكومة الشمال ، بأموال البترول ، وهي أكثر من نصيب الجنوب ، ومتى ستحاسب أعضاءها على الفساد ؟! المواطن السوداني البسيط ، الذي بسبب القهر، والفقر، والحروب، فضل اللجوء إلى إسرائيل ، على العيش في السودان ، لأول مرة في تاريخ السودان ، فقبلته ، وآوته الصهيونية العالمية ( المتهمة بتحريض الحركة الشعبية على تجميد نشاطها في الحكومة ) !! هذا المواطن السوداني البسيط في الشمال ، إذا كان متضرر كل هذا الضرر ، من حكومة حزب المؤتمر الوطني ، وقيادتها للبلاد ، فهل يعقل أن تكون الحركة الشعبية ، التي تمثل الجنوب ، غير متضررة ، من هذا النظام؟! وهل يظن أحد ان حكومة الشمال وهي تعاني هذا الفشل ، تريد لحكومة الجنوب ان تنجح لتكون أفضل منها ؟! ألا تشكل الانتخابات القادمة ، حافزاً للمؤتمر الوطني ، ليستغل كل إمكانات الدولة ، ليضعف شريكه ، حتى لو اضطر للتدخل في اختيار وزرائه ، حتى يضمن تمثيلاً ضعيفاً ، ومشاركة غير فعالة ، ورقابة خائرة ؟!

أصل المشكلة :

إن حكومة الإنقاذ حين قامت ، لم يكن السلام من أجندتها ، وإنما أزكت نار الحرب ، وادعت انها الجهاد الإسلامي ، ووظفت لها كل طاقات البلاد المادية ، والبشرية ، والإعلامية ، وظنت جهلاً وسوء تقدير، انها تستطيع ان تقضي بالسلاح ، على الجيش الشعبي لتحرير السودان ، حتى أنها سمت إحدى غزواتها " نهاية المطاف " !! ولكنها هزمت في تلك المعركة ، وتوالت عليها الهزائم ، حتى اقتنعت بجدوى السلام .. ثم ووجهت بضغوط دولية ، اضطرتها لأن تقبل اتفاقية السلام ، مذعنة ، فوقعت عليها ، وهي غير مقتنعة بها ، بل كانت تضمر الخيانة ، وتسعى لكسب الوقت ، وهي تعد العدة ، للاستعداد للحرب مرة أخرى ، متى ما أصبحت الظروف الدولية ، مواتية والأوضاع الداخلية ، قابلة للتصعيد مرة أخرى ..

وبعد توقيع اتفاقية السلام في 2005 م ، ظهرت نوايا الحكومة ، بإصرارها على البقاء على الوضع القديم ، فلم تطبق الدستور ، ولم تحفل بموضوع التحول الديمقراطي ، وسنت القوانين المنتهكة لحقوق الإنسان ، وأغفلت كل بند من بنود الاتفاقية ، يمنح شريكها مشاركة حقيقية في الحكم .. وكأنها وهي تفعل كل ذلك ، تقول للحركة الشعبية بلسان حالها : " لقد عجزنا عن إخضاعكم بالحرب ، لهذا أوقفنا الحرب ، لنخضعكم بالسلام ، وذلك عن طريق التسويف ، وإضاعة الوقت ، وعدم تطبيق الاتفاقية ، وتعيين وزرائكم نيابة عنكم ، فإذا لم يعجبكم هذا ارجعوا للحرب" .. وهم في ذلك ، يريدون ان يوهموا العالم ، خاصة الذين شهدوا على اتفاقية السلام ، انهم مازالوا مع السلام ، وان الحركة الشعبية هي التي تهدد بالحرب ، وهي التي رفضت بمحض إرادتها ، الدخول في الحكومة .

إن سبب المشكلة التي تعاني منها البلاد اليوم ، هو ان المؤتمر الوطني ، قد اكتشف انه أخطأ في توقيع اتفاقية السلام .. وان هذه الاتفاقية ، من شأنها ان تقضي على هيمنته الفردية ، لو قدر لها ان تحقق ، وهذا ما قصده د. نافع حين قال ، ان للحركة الشعبية أجندة خفيه ، تريد ان تصفي بها مشروعهم !! والذي يريده المؤتمر الوطني الآن ، هو ان يتراجع عن الاتفاقية ، ويفض الشراكة، مع الاستمرار في الحكم ، وكأن شئ لم يكن !! وهو في هذه الأثناء ، ينفق الأموال الطائلة ، على الدفاع الشعبي ، وعلى الجيش النظامي ، ويؤمن مواقعه في الجنوب ، ويرفض الانسحاب الذي نصت عليه الاتفاقية ، تحسباً للحرب . وهو اذ يفعل ذلك يتمنى ان تقبل الحركة الشعبية ، ذلك دون ان تفعل شئ ، لأنه يراهن في حسابات المتطرفين من اعضائه على عدم مقدرة الحركة على الرجوع للحرب .. ولكن كل هذه الحسابات جائرة ، وخائنة ، ولم تراع عهداً ولا ذمة ، ثم إنها أيضاً خاطئة ، وستضر بالحكومة أكثر مما تنفعها .. فإذا كانت الحكومة قد جارت على شريكها ، ولم تنفذ اتفاقها معه ، فمن الذين يؤمن لها من حركات دارفور أو شرق السودان أو غيرها ؟؟ وهل تستطيع هذه الحكومة ، المجردة من السند الشعبي ، المعتمدة على آلية البطش والإرهاب ، أن تقود الحرب في جميع أنحاء السودان ، لو قدر للحرب أن تشتعل مع الحركة الشعبية ؟

إن العالم الذي شهد اتفاقية السلام ، وعرف حرص الحركة عليها ، يستطيع ان يميز ان الحركة قد كانت مضطرة ، إزاء إهمال ، وتحقير، وإغفال حكومة الشمال ، الى تجميد عضويتها ، وعدم مشاركتها في حكومة تحرف الاتفاق ، وتعطل الدستور، وتستمر رغم ذلك في حكم البلاد ، بالبطش والإرهاب ..

الحركة الشعبية تستحق الإشادة :

لقد خاضت الحركة الشعبية ، الحرب وحدها ، دون مساعدة تذكر، من الأحزاب ، رغم مشاركتها معهم في التجمع .. وبعد توقيع اتفاقية السلام ، ظلت تقاوم في صبر، وثبات ، كل محاولات المؤتمر الوطني ، في التغول على حقوقها ، دون ان تجد أي مساندة من الأحزاب ، او من المثقفين عموماً ، بل أن أقلامهم انبرت في نقد الحركة ، فوصفوها تارة بالانتهازية ، والتنصل عن مبادئ التجمع ، والقبول بالمشاركة وحدها في السلطة .. كما وصفوها تارة بالضعف ، وتارة بالتوافق مع المؤتمر الوطني ، وخذلان الشعب في الشمال والجنوب ..

ورغم ذلك ، واصلت الحركة الشعبية نضالها ، وأصرت على بناء كياناتها السياسية ، في الشمال .. وقام قطاع الشمال ، بعمل خارق ، أثر على أعداد كبيرة من الشباب في الشمال ، وزاد من تعاطفهم مع الحركة ، وتفهمهم لمواقفها ، كما فتح داره للحوارات الفكرية ، والثقافية ، بداية للمنابر الحرة ، التي لن تتم توعية هذا الشعب بغيرها .. لكل هذا انزعج المؤتمر الوطني ، وانفق الأموال الطائلة ، ليشق صفوف الحركة ، بالإغراءات ، وبإثارة النعرات القبلية ، لإشعال العداوة بين أفرادها ، وتأليبهم على بعضهم البعض .. ولكن الحركة استطاعت ان تجمع نفسها ، وتواجه سلبياتها ، وتقاوم ضعاف النفوس من أعضائها ، وتعلن الفساد وتطارده ، وتهيئ نفسها للتحول الديمقراطي .. ثم هي رغم ذلك ، كانت تعمل في مواجهة الحكومة ، وتذكيرها بالتزاماتها بالاتفاقية ، وبحقوق الإنسان التي نصت عليها ، وتقاوم كافة محاولاتها ، في التغول على الحريات ، وفي وضع القوانين المعارضة للدستور ..

لقد كان الأمر المتوقع من كل المثقفين الأحرار، أن يدعموا الحركة الشعبية ، وان اختلفوا مع طرحها السياسي ، ذلك أنها حين تقاوم المؤتمر الوطني ، إنما تقاوم الهيمنة ، المدعومة بالهوس الديني ، والحكم الشمولي الطويل ، الذي لم يذق الشعب على يديه ، غير القهر، والإفقار، والتعذيب .. وبدلاً من ذلك ، نظر إليها المثقفون ، وقادة الأحزاب ، وكأنها بمشاركتها في السلطة وفق الاتفاقية ، قد أصبحت مثل المؤتمر الوطني ، ولهذا نقدوها ، دون النظر بعمق الى الدور الذي تقوم به في هذه المرحلة .

الأقزام :

وحين اتخذت الحركة الشعبية ، هذه الخطوة الشجاعة ، بتجميد نشاطها ، حتى تحقق مطالبها ، التي تنص عليها الاتفاقية ، لم تجد من الزعماء السياسيين مسانداً !! ففي مقابلة لجريدة الحدث ، مع الأستاذ محمد إبراهيم ، نقد سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني ، اعترض على خطوة الحركة بتجميد نشاطها في الحكومة ، قائلاً ( لن يستمر لأن وجودهم في الحكومة المركزية يغذي حكومتهم الإقليمية وفي رأي انه لا جدوى من المناورة بهذا الكرت من ناحية سياسية لأنهم يعلمون أنهم لا بد سيعودون في يوم ما ) ( الأحداث 16/10/2007م ) .. وحين سأله الصحفي عن ما يمكن أن يؤدي له فض الشراكة ، واثر ذلك سلبياً على السودان قال ( يجب الا يهددنا أحد بالانفصال ودعني أسالك اذا أرادوا الانفصال أين سيذهبون ) !! ( المصدر السابق) فهل هذه قامة زعيم وطني ، قائد لحزب تقدمي ، يرجى منه الإسهام في حل مشكلة بلده ؟! انظر كيف يظن ان الحركة الشعبية حين تهدد بالانفصال ، إنما تهدد المواطنين الشماليين ، فيرد عليها ، وكأنه الطيب مصطفى ، بنبرة لا تخلو من النعرة العنصرية .. ولقد لاحظ الصحفي الذي يحاوره انه يتبنى نفس خط المؤتمر الوطني فقال له ( وكأنك تتحدث بلسان المؤتمر الوطني ؟؟ ) !! وحين سأله الصحفي قائلاً ( إذا كيف يكون سيناريو الخروج من التحالف ؟ ) (ضحك ثم أردف قائلاً : كل زول يطلق مرته بالكيفية التي يراها) !! وحين ألح عليه الصحفي ليدلي برأيه حول تصوره للمخرج ، قال ( نحن قادرين نحل مشاكلنا لنفكر في مشاكل الآخرين ) (المصدر السابق) .. فهل رأى الناس مثل هذا الضعف وهذا الهوان ؟! إن اعتراف الأستاذ محمد إبراهيم نقد ، بعد كل هذه السنين من الإلتزام ، والاختفاء ، بعجزه عن حل مشاكل حزبه ، اعتراف لا تزينه فضيلة التواضع ، لأنه خال تماماً من الصدق .. وإلا لتنحى نقد عن زعامة الحزب التاريخية ، وأعطى الفرصة لمن يأنس في نفسه الكفاءة ، لحل هذه المشاكل ، والإسهام في حل مشاكل الوطن ..

أما السيد الصادق المهدي فكل همه - كما هي عادته- ان يستغل الأزمة التي تمر بها البلاد ، ليجد السبيل ممهداً للسلطة ، لذلك أصر على أن حل الأزمة ، هو تكوين حكومة قومية جامعة ، بدلاً عن الشريكين ، يظن انه سيكون رئيسها !! ولا حاجة للتعليق على مبلغ سطحية تصريحات السيد الصادق ، ذلك ان المؤتمر الوطني ، وقد ضاق بشريك واحد ، لا يمكن ان يقبل بعدة شركاء ..

وحتى الاتحادي الديمقراطي ، الذي كانت مواقفه أفضل من حزب الأمة ، فقد بدا في هذه الأزمة متخبطاً مثله .. فقد جاء ( وجه الأمين العام للحزب الاتحادي بالإنابة فتح الرحمن شيلا انتقادات قاسية إلى الحركة الشعبية واعتبر أزمتها الحالية مع المؤتمر الوطني نتاج طبيعي لانفرادها بالشراكة في الحكم وتعمد تجاهل وعزل حلفائها السابقين .... مزيحاً الستار عن تحريض بعض الجهات –لم يسمها- للتجمع والحزب الاتحادي لمغادرة الحكومة أسوة بالحركة لكنه أكد ان الاتحادي لن ينحاز في الأزمة الحالية الا لمصلحة الوطن ، وأردف لن نكون تبعاً للحركة ...) (الحدث 16/11/2007م) .. إن الحركة لم تنفرد بالشراكة في الحكم ، بدليل مشاركة الأعضاء من الاتحادي ، الذين أشار شيلا بأنهم لن يخرجوا من الحكومة بخروج الحركة !! وهؤلاء كان يجب أن يخرجوا من الحكومة ، لا تقليداً وإتباعا للحركة ، وإنما لأن الحكومة لم تطبق الاتفاقية التي شاركوا بموجبها في السلطة ، اللهم إلا إذا كانت الكراسي لا المبادئ هي همهم .. وبعد تصريحات شيلا ، وهجومه على الحركة الشعبية ، الذي يشبه تماماً تصريحات ، وهجوم المؤتمر الوطني ، قرأنا قرار التجمع بالوقوف الى جانب الحركة !! ثم تصريح نائب رئيس التجمع ، ووزير التقانة بالحكومة ، عبد الرحمن سعيد الذي نقله عنه نائب رئيس الجمهورية ،والذي اعتبر الوقوف بجانب الحركة ،لا يمثل رأي التجمع !! ولم نسمع من السيد محمد عثمان الميرغني ، تأييداً لشيلا ، أو لعبد الرحمن سعيد ، ومن ثم ظل موقف الاتحادي على ضعفه غامضاً ..
المخادعون :

في مؤتمره الصحفي ، الذي عقده لتوضيح وجهة نظر الحكومة ، قال الأستاذ على عثمان نائب رئيس الجمهورية ( والسؤال الآن لو ان هذا الموقف الذي اتخذته الحركة الشعبية كان من باب الحرص على المواطن في جنوب السودان الذي لم يجد بعض حظه أو إجابة على الأسئلة المطروحة عن الحصاد الذي يجنيه بعد عامين من تطبيق اتفاق السلام في خدماته الأساسية وفي أوضاعه الأمنية وفي حرياته السياسية ...) (الحدث 22/10/2007م) .. ومعلوم ان حكومة الجنوب ، لم تتحصل على حصتها من عائدات البترول ، بمجرد قيامها ، وإنما بعد إلحاح متصل ، وفي منتصف السنة الثانية .. ومعلوم أيضا ، ان الجنوب قد كان أرض المعركة ، طيلة سنوات الحرب ، مما دمر بنيته التحتية ، وقضى على الطرق ، وزرع الألغام ، التي تعيق الزراعة والرعي ، وتحد من حركة المواطنين .. فهل كان متوقع من حكومة الجنوب ، أن تصلح البنية التحتية ، وتشق الطرق والقنوات ، وتجني عائدات التنمية ، فيتحسن وضع المواطن ، ويستوعب كل العائدين من النازحين واللاجئين ، الذين شردتهم الحرب ، وتتحقق الديمقراطية ، في هذه الشهور، التي استلمت فيها حصتها من عائدات البترول ؟! هل كان ذلك ، يمكن ان يحدث ، حتى لو أنها استلمت حصتها ، في نفس يوم توقيع الاتفاقية ؟!

إن السؤال الحقيقي هو : إن حكومة الإنقاذ قد حكمت منذ عام 1989م ، ولقد بدأت تستلم عائدات البترول منذ عام 1999م ، فلماذا عجزت في 18 عام ان تطبق في الشمال ، التنمية ، والديمقراطية ، التي تطالب حكومة الجنوب ان تطبقها في عامين فقط ؟!

سئل د. أمين حسن عمر، المدير العام للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون ، عن إعتراض السيد رئيس الجمهورية ،على مرشحي الحركة الشعبية من الوزراء ، وهل لديه حق الفيتو ، على الإتفاقية ، فقال ( الرئيس لديه الحق بالعرف المعمول به في كل الدنيا ان يعترض على أي وزير يعتقد انه غير مناسب وكيف يستقيم ان يأتي كل حزب بمجموعته وفق هواه . ومن ثم يصبح هذا الجمع حكومة والاتفاقية عندما تحدثت عن تشكيل الحكومة بالتشاور كانت تعني هذا )( الحدث21/10/2007 )
أليس هذا محض التواء ؟؟ لماذا يترك الرئيس الاتفاقية التي وقّع عليها ، وهو مسئول عنها ديناً وقانوناً ، ويتبع العرف الذي تعمل به دول أخرى ، لم توقع مثله على اتفاق محدد ؟! ثم هل تظن الحركة الشعبية ، أن الوزراء الذين اختارهم المؤتمر الوطني ليمثلوه ، مناسبين ، أم تعتقد انه قد أتى بهم (وفق هواه) ومع ذلك قبلت بهم ، احتراماً للاتفاقية ؟

إن تصريح د. أمين حسن عمر، بالإضافة الى تعمده الخداع ، يفتقر إلى المعرفة بالديمقراطيه والنظام التعددي ، الذي يختار فيه كل حزب ممثليه ، حسب رغبته، وخلافاً لرغبة الحزب الآخر ، ومع ذلك ، يمكن أن تكون الحكومة منسجمة ، ومتماسكة ، وفعالة ، لأنها مقيدة بالدستور ومتفقة على مصلحة البلد .. واتفاقية السلام ، قد نصت على تكوين الحكومة بالتشاور، ولكنها احتاطت لتغول الحكومة على شريكها ، لهذا لم تعط الرئيس الحق في الاعتراض على وزراء الحركة ، من هنا اعتبر اعتراضه خرقاً للاتفاقية ، وتعدي على حقوق شريكه ..

ولم يكن من المعقول ، ولا من المقبول ، أن ترضى الحركة بمثل هذا التغول السافر، الذي يلغي وجودها في السلطة .. ولقد تنبه السيد الرئيس لذلك ، فقبل المذكرة ، وقام بتعيين الوزراء المقترحين ، فاستجاب للمجموعة الواعية من مستشاريه .. ولكن المذكرة، كانت تحوي مطالب أخرى ، تعتمد أيضاً على الاتفاقية ، لم تتم الاستجابة لها ، أو التعليق عليها ، مما يبرر تجميد الحركة لنشاطها داخل الحكومة ، كتعبير حضاري ،عن عدم الموافقة على إهمال مطالبهم الدستورية ، والتي تتفق مع ما جاء في الاتفاقية .

فهل يمكن لحكومة الوحدة الوطنية ، ان تستمر بدون الحركة الشعبية ، ولو تظاهرت بان غيابها لن يؤثر ؟! إن غياب الحركة الشعبية ، يرجع الحكومة إلى عهد حكومة الإنقاذ ، التي تمثل حزب واحد ، يطرح طرحاً متشدداً ، غير مقبول داخلياً ، وإقليميا ، ودولياً .. وليس من مصلحة الحكومة أن تتبع الجناح المتطرف ، الذي يدفعها في هذا الاتجاه .. فإذا كان المجتمع الدولي يشك في تورطها في جرائم دافور ، والقوات الأفريقية تظن أنهم متورطة في جريمة حسكنيته ، والفصائل المحاربة في دارفور تنظر إلى رعايتها لاتفاقها مع الحركة ، كنموذج يمكن ان تطبقه معها ، فليس من مصلحة الحكومة انتهاز تجميد الحركة لنشاطها ، للاستيلاء على كل السلطة ، في انقلاب على الشرعية ، التي ارتضتها كل الأطراف ، والتي لا يمكن أن تمثل بغير الدستور الانتقالي ، واتفاقية السلام الشامل التي لا تقوم بغياب احد أطرافها ..ود. أمين حسن عمر، باعتباره المسئول عن الإذاعة والتلفزيون ، ماذا فعل وفقاً للإتفاقية في حدود صلاحياته ؟ أليست هذه أجهزة قومية ؟ لماذا لا تزال محتكرة ، ومستغلة للدعاية لحزب المؤتمر الوطني ، دون سائر الأحزاب ؟ لماذا تقوم كل البرامج ، على طرح الرؤية الدينية المتخلفة ، التي يتبناها المؤتمر الوطني دون سواه .. ولماذا غيبت الحركة الشعبية ، وفكرها وثقافتها ، ورؤاها ، من أجهزة الإعلام القومية ، واستغلت هذه الأجهزة ، مع قرب الانتخابات للدعاية للمؤتمر الوطني ؟!

لقد ألقت الحركة الشعبية حجراً ، في بركة السياسة السودانية الآسنة ، الراكدة ، فحركتها .. وهذا في حد ذاته ، عمل عظيم ، يضاف إلى مواقفها المشرفة .. ولقد أظهرت بهذا الموقف، قصر قامة القادة السياسيين، في الحكومة وفي المعارضة .. وأكدت بذلك ، مقولتين شهيرتين للاستاذ محمود محمد طه أولهما ، قيلت في مطلع الخمسينات ، وهي : ( حل مشكلة الجنوب ، في حل مشكلة الشمال ) !! والثانية قيلت في منتصف الستينات ، وهي : ( الشعب السوداني شعب عملاق ، يتقدمه أقزام ) !!

د. عمر القراي


من محن الوطن .. أشياخ التكفير .. أساتذة جامعات؟!


منع من النشر


د.عمر القراي
)
إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم
(
صدق الله العظيم


اطلعت مؤخراً، على كتيب بعنوان ( فتاوي العقيدة والمذاهب)، مؤلفه هو د. عبد الحي يوسف. ولقد لفت نظري في البداية، ان كاتبه مشار إليه بلقب (الدكتور) بدلاً من (الشيخ)!! كما ان الكتاب ليس فيه اسم الجهة التي أصدرته، أو دار النشر التي طبعته، ووزعته، الأمر المخالف لكل نظم المسؤولية، في التوثيق العلمي.. وحين اطلعت على الكتيب، وجدت انه ملئ بالفتاوي المتطرفة، التي تجنح للتكفير، والإثارة، والتحريض، والاستعداء على فئات مختلفة من الشعب السوداني.. مما يعد جهلاً بحقائق الدين، واستهتاراً بالدستور، وباتفاقية السلام، التي ارتضت التباين الديني، والفكري، والثقافي، والسياسي.. وأقرت مبدأ الحق في العيش الكريم، لأبناء الوطن الواحد، رغم اختلاف أديانهم، ومعتقداتهم..
ولقد افتتح الكتاب، بكلمة للناشر- الذي لم يورد اسمه - جاء فيها (وهذه المجموعة تمثل نماذج منتقاه لبعض الأسئلة التي وردت إلى موقع شبكة المشكاة الإسلامية وأجاب عليها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم)!! ولم يوضح لنا الكتيب، لماذا قدمت هذه الأسئلة لذلك الموقع بالذات، ولا عن اي جماعة إسلامية، يعبر ذلك الموقع، الذي يفخر بنشر فتاوي التكفير، ولماذا قدم الموقع الأسئلة للشيخ عبد الحي، دون سائر الفقهاء والوعاظ، الذين درجوا على إصدار الفتاوي قبله..
ولقد كان من الممكن ان نتجاوز عن هذه الفتاوي الجاهلة، الحاقدة، البعيدة عن واقع العصر، لو انها صدرت من شيخ عادي، بسيط، لا يتجاوز علمه "متن العشماوية"، أو "ألفية ابن مالك"، وما شابهها من الحواشي والمتون.. ولكن ان تأتي الفتاوي المتطرفة، من شيخ بلقب (دكتور) في جامعة الخرطوم، ثم هو، رغم هذه العقلية، المسؤول عن الثقافة الإسلامية، في هذه المؤسسة العريقة، فأمر لابد من الوقوف عنده.. ذلك ان هذه الظاهرة الغريبة، انما تشير الى أمرين خطيرين: أولهما انتشار التيارات الدينية المتطرفة، التي تسيء إلى الإسلام أبلغ الإساءة، بما تعكسه من ممارسات إرهابية، تخالف جوهر الدين، وتشوه صورته، في نظر العالم.. ثم هي منسوبة بصورة أو أخرى، لحكومة الإنقاذ، التي سمحت بها، رغم أن الحكومة تحاول جاهدة، تبرئة ساحتها، من تهم الإرهاب، وتصرح مراراً، بانها تسعى لإقرار السلام، في دارفور، كما أقرته في الجنوب، علها بذلك تمحو تهمة الإرهاب، وتدفع شبح تدخل القوات الدولية، الذي لا يبرره شئ مثل الإرهاب والعنف..
أما الأمر الآخر فهو تسرب هذه الاتجاهات الارهابية، التكفيرية، الى مؤسسات التعليم العالي، دون كفاءة علمية، ودون اعتبار للوائح، والنظم، ومعاييرالتعيين، في هذه المؤسسات.. مما أسقط هيبة الجامعات، وحد من قدرتها على المنافسة، في التقييم العالمي، وأثر سلباً على تربية، وتأهيل النشئ وأكد ما ظلت المنظمات الدولية لحقوق الانسان تردده، من ان ما حدث للتعليم العالي، في السودان، يرقى الى حد الانتهاك لحقوق الانسان..


داعية الفتنة.. كيف يفكر؟


والشيخ عبد الحي يوسف، لم يبدأ الفتنة بهذه الفتاوي العجيبة، وانما درج على تصدر كافة المناسبات العامة، التي تتعلق بأي موقف سياسي، أو فكري، ليحولها الى مأساة، بزرع بذور الفتنة، والفوضى، وتهديد أمن المواطنين.. فقد قاد مجموعة من الشبان، تهتف (الحد الحد للمرتد) أمام قاعة المحكمة، التي برأت المرحوم محمد طه محمد أحمد، من تهمة الردّة، التي حاول جاهداً أن يلصقها به!! وسبق أن هاجم معرض الأخوة المسيحيين، بجامعة الخرطوم، وحرض عليه، واستنكر وجوده، مما اثارسخط المتطرفين، فقاموا بحرقه، واهدروا بذلك، حق اولئك المواطنين، في التعبير عن معتقداتهم، وعرضوا ارواحهم للخطر، واتلفوا ممتلكاتهم!! ولقد كانت تلك الفتوى الجاهلة، مخالفة واضحة، لقوله تبارك وتعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين)، ولقوله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن).. ثم إنها مخالفة للدستور، واخذ للقانون في اليد، وكل ذلك لا يليق بالطالب الجامعي، فأعجب ان يقوم به الاستاذ الجامعي، داخل الحرم الجامعي!! ثم لا يساءل عما اقترف من جريمة التحريض!! لقد كان أجدر بالشيخ عبد الحي ان يعرض للافكار التي يختلف معها فيبين حقها من باطلها، ويمكن ان يحاور اصحابها فيهدي الله لنوره من يشاء ، ولكن اسلوب التكفير والاثارة وتحريض البسطاء، ليقوموا هم نيابة عنه، بما يدعي انه واجب ديني، حتى يكون هو بمعزل عن المساءلة القانونية، انما هو عمل ينقصه الصدق، وتنقصه المروءة!!
ولم يكن سبب تحريض عبد الحي، ضد المسيحيين، غضب مفاجئ، لم يستطع تمالكه، وانما يرجع الى ايمانه الراسخ، بعدم التقارب بين الاديان المختلفة!! فقد سأله أحدهم (كثر الحديث هذه الأيام عن التقارب بين الأديان فما صحة هذا القول؟) فاجاب عبد الحي (... فان الدعوة الى التقارب بين الاديان يراد من ورائها التسوية بين الحق والباطل والهدى والضلال والكفر والايمان..... فالتقارب بين الاديان بدعة ضلالة تولى كبرها الماسون ومن خدع بهم أو باع آخرته بدنياه) (فتاوي العقيدة والمذاهب - الجزء الأول صفحة 20).. ولو كان الشيخ عبد الحي، يعرف اقل القليل، عن الاديان، لعرف انها متقاربة لأن مصدرها واحد، وأصلها واحد، وغايتها واحدة.. أما مصدرها فهو الله سبحانه وتعالى، واما أصلها فهو كلمة التوحيد " لا اله الا الله "، واما غايتها فهي تجسيد كلمة التوحيد، في الخلق.. قال تعالى عن وحدة الأديان ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب)، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير ما جئت به انا والنبيون من قبلي لا اله الا الله).. ولو كان الشيخ عبد الحي يعرف، لعرف ان من اسباب التقارب بين الاديان، ان ما جاء به القرآن، هو ما ورد في الكتب المقدسة قبله، قال تعالى (ان هذا لفي الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى).. وان الاختلاف وقع في الشرائع، قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) لاختلاف الزمان، وحاجة كل زمان لما يناسبه من التشريع.. فالتقارب إذاً هو الاساس، والاختلاف فرعي، وهو لا يبرر التباعد، الذي افتعله الجهلاء، من اتباع الأديان، وليس ادل على ذلك من هذه الفتوى!!
ومن نماذج الفتاوي، التي تنطوي على النفاق، تحريم الشيخ عبد الحي، العمل في الأمم المتحدة!! فقد سألته إحدى النساء (بحكم عملي أخالط كثيراً من النصارى، نتناول الطعام سوياً أثناء العمل، اشاركهم في بعض الدعوات والحفلات في منازلهم وبعض الاماكن العامة فما مدى حرمة ذلك؟ مع العلم بأني التزم بالزي الاسلامي حتى في هذه الحفلات) فكانت اجابة عبد الحي ( فالحكم على عمل ما بالحل أو الحرمة يتوقف على معرفة ماهية ذلك العمل، وهل يندرج تحت التعاون على البر والتقوى أم التعاون على الإثم والعدوان؟ وها هنا أسئلة تستطيعين من خلال الجواب عنها معرفة حكم عملك في تلك الهيئة: هل الأمم المتحدة تنتصر لقضايا المسلمين أم العكس؟ هل هي في احكامها ونظمها تخضع لما انزل الله أم العكس؟...... أما مخالطتك لهم وانت أنثى فما ينبغي لك ذلك بل المطلوب من المسلمة أن تلزم حدود الاسلام بالا تخالط الرجال الا لضرورة أو حاجة، وحسبك ان تعلمي ان النبي صلى الله عليه وسلم منع اختلاط الرجال بالنساء حتى في المسجد وفي الصلاة، فاتقي الله في نفسك ودينك) (المصدر السابق ص 22-23) فهل كان الشيخ عبد الحي، صادقاً في هذه الفتوى، وهل هو مطبق لها في الجامعة، حيث الطلاب والطالبات في المعمل، وفي المكتبة، وفي الفصل، وفي فناء الجامعة، في حالة اختلاط؟ وهل يطلب الشيخ عبد الحي، من أي طالبة تسأله في الجامعة سؤالاً، أن تخاطبه من وراء حجاب؟! وهل ركب عبد الحي، يوماً، المواصلات العامة، أو ركب الطائرة، وجلست بقربه امرأة، فترك المركبة في الحال؟! واذا كانت الأمم المتحدة، لا تخضع في أحكامها، ونظمها، لما انزل الله، فمن أولى بان يقال له ذلك، موظفة بسيطة، أم حكومة السودان، التي تتعامل، وتتعاون، وتستلم المعونات من الأمم المتحدة؟



تكفيره للحركة الشعبية

لقد ورد السؤال كالآتي: (مارأي الشرع في انضمام رجل مسلم الى الحركة الشعبية كتنظيم سياسي مع العلم ان قيادتها لم يكونوا مؤمنين؟) فاجاب الشيخ عبد الحي (فلا يجوز لعبد يؤمن بالله واليوم الآخر ان ينضم لحركة تعادي الإسلام وأهله سواء ن كانت الحركة الشعبية أو غيرها من الاحزاب الإلحادية والعلمانية التي تجاهر بعدواة الاسلام أو تكون برامجها مشتملة على الدعوة الى إقصاء الدين عن الحياة... والحركة الشعبية على وجه الخصوص لم تخف في يوم من الأيام عداوتها للإسلام وأهله واعلنت مراراً عن نيتها وسعيها لإقامة ما يسمونه بالسودان الجديد يعنون بذلك سوداناً علمانياً لا مكان للدين فيه، كما انهم قد بدت البغضاء من افواههم تجاه كل ما يمت للعروبة بصلة، وما فتئوا ينادون بان سكان السودان الأصليين هم الزنوج وأن العرب الجلابة ليسوا الا غزاة الى غير ذلك من الترهات التي يبثونها ويدندنون حولها مراراً وتكراراً، وان المرء لا ينقضي منه العجب حين يرى منتسبين الى الاسلام يسارعون فيهم لنيل عرض من الدنيا قليل يبيعون من اجله دينهم ويوادون من حاد الله ورسوله فاذا عوتبوا يقولون "نخشى ان تصيبنا دائرة" وهم يجهلون حكم القرآن الواضح "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين") (فتاوي العقيدة والمذاهب: د. عبد الحي يوسف صفحة 24-25).
إن فتوى الشيخ عبد الحي، لا عبرة بها، من حيث الفهم الديني السليم. ذلك ان الحركة الشعبية، قد حاربت بشرف، وحين جنحت للسلم، حق على محاربيها، ان يجنحوا له أيضاً، نزولاً عند قوله تبارك وتعالى (وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم).. ولأنه في أصل الدين، فان الانسان حر ان يختار الاسلام او يختار غيره.. قال تعالى في ذلك (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)!! ومن احترام الاسلام لانسانية الانسان، بغض النظر عن معتقده، فقد أمر بحسن معاملة غير المسلمين، قال تعالى (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين)، وقال جل من قائل (ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)!! فاذا قال الشيخ عبد الحي ان هذه الآيات منسوخة، وان الآيات المحكمة هي آيات القتال، فليسأل نفسه لماذا أنزل الله، هذه الآيات الانسانية الرفيعة، اذا كانت لن تطبق مطلقاً؟! لقد أنى للمتصدرين لأمر الإسلام، أن يعلموا أن النسخ إنما هو إرجاء، وليس إلغاء.. وان الآيات التي تدعو للسلام، والمودة، والحسنى بين المسلمين وغير المسلمين، هي أصل الدين، وهي صاحبة الوقت اليوم، ولا بد من بعثها، ومعيشتها، حتى لا يتناقض ديننا مع حياتنا، فيقبل الشيخ عبد الحي، ان يكون زعيم الحركة الشعبية، نائباً لرئيس الجمهورية، ومسؤول عن كل البلد، في حالة غياب الرئيس، ومسؤول عن المؤسسات التابعة لرئاسة الجمهورية، بما فيها مجمع الفقه، الذي يعمل عبد الحي موظفاً فيه، ثم هو وكل اعضاء تنظيمه، يعتبرون مع كل ذلك، في نظر عبد الحي كفاراً!! أما كان الأجدر بعبد الحي، ان يستقيل اولاً، عن كل مؤسسات الحكومة، ويعلن معارضته لها، لأنها والت الكفار، ولم تتبع الآية التي اوردها لنا، في حديثه أعلاه، وهي قوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، قبل أن ينصرف عن هذا الواجب المباشر، الى تكفير الذين انضموا للحركة الشعبية؟!
ولو ترك الشيخ عبد الحي، أمر التكفير جانباً، وفضل تقبل الفهم، لشرحنا له كيف ان الآية التي اوردها ومثيلاتها، آيات فروع، تنزلت عن الأصل، مناسبة لطاقة المجتمع في الماضي، حيث العرف السائد قد كان القتال.. واما العرف اليوم، فهو السلام، ونحن مأمورون باتباع العرف، إذا لم يخل بغرض من أغراض الدين.. قال تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين).. هذا العرف، انما يدعونا الى احسان معاملة المسيحيين، التزاماً بآيات الأصول، مثل قوله تعالى (ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بان منهم قسيسين ورهباناً وانهم لايستكبرون)!! ولو انشغل الشيخ عبد الحي، بالتفكير، عن التكفير، لدعوناه ليتأمل، قوله تعالى (ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)!!
أما من حيث الفهم الانساني، فان هذه الفتوى جريمة نكراء، لانها مخالفة تبلغ حد الاستهزاء بالدستور، وباتفاقية السلام، ثم هي خطيئة لا تغتفر، في ميزان الديمقراطية وحقوق الانسان، حيث حرية الاعتقاد، حق راسخ، نصت عليه كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية، ثم انها بالاضافة لكل ذلك اثارة للبسطاء، والمضللين باسم الدين، ليأخذوا القانون في أيديهم، فيثيروا الفوضي ويقتلوا زعماء الحركة الشعبية، أوالمتعاونين معهم!! ولقد حدثت مثل هذه الفتن، من قبل، في يوم الاثنين المشؤوم، وأزهقت فيها أرواحاً بريئة، فلماذا يريد عبد الحي ان يكررها؟! ثم ان الدعوة لعدم التعاون مع الحركة الشعبية، بعد توقيع الاتفاق معها، نكوص عن العهد، وخيانة للاتفاق (وان الله لا يهدي كيد الخائنين)!! ومن هنا، يجب عدم السكوت على هذه الفتوى الحمقاء، او قبولها باعتبارها مجرد راي ديني، من حق الفقهاء اشاعته بين الناس.
وحين حرض الشيخ عبد الحي، المواطنين المسلمين، على عدم موالاة اعضاء الحركة الشعبية، أورد الآيات التي تحذر من ذلك، وتعتبر المسلمين الموالين للنصارى مثلهم، كقوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين)!! والمواطنين الذين يحذرهم الشيخ عبد الحي، لم يوقعوا اتفاقية السلام، وانما وقعها قادة الحكومة، الذين أوقفوا الحرب.. فهل يقصد الشيخ عبد الحي - بايراده لهذه الآية - بان قادة حكومة الانقاذ خرجوا عن الدين، واصبحوا مثل النصارى؟! وإذا كان هذا هو رأيه الخفي، في قيادات الحكومة، فلماذا يتعامل معهم، ويأتمر بأمرهم، وهم في رأيه قد خرجوا على أمر الله؟! أليس في هذا نفاقاً، لا يبقي لأحد ديناً ولا يذر؟! إن خطورة مثل إشاعة هذه الفتاوي الجاهلة، هي ان يسمعها بعض البسطاء، المضللين، فيعتدوا حتى على من كانوا قادتهم في الجماعة الاسلامية، من رموز حكومة الانقاذ، بحجة ان عبد الحي قد قال انهم مثل أهل الكتاب، لأنهم موالين لهم وشركاء معهم في حكومة واحدة!!


تكفيره للجمهوريين
ولقد كفر الشيخ عبد الحي الجمهوريين، دون ان يناقش افكارهم، ودون ان يحاورهم فيها، وظن من الشذرات، التي بترها عن قصد، من هنا وهناك، ان امر تكفير الاستاذ محمود، والجمهوريين، بداهة لا تحتاج حتى ان يتردد في اطلاقها، ولذلك يقول: (فان الفكر الجمهوري الذي كان داعيته والمنظر له الهالك المذموم "محمود محمد طه" فقد حوى جملة من المصائب والطامات تجعل الحكم عليه بيناً... إنكاره لأمورقد علمت من دين الاسلام بالضرورة كوجوب الحجاب على المرأة ووجوب الزكاة واباحة تعدد الزوجات.... سوء ادبه مع الله وانبيائه ورسله ودينه وقد طفحت بذلك منشوراته ومؤلفاته..... بلغ من زندقته وفساد عقله ان ظن ان احكام الاسلام موقوته وان اختلاف الزمان يأتي على اصلها.... واذا تبين مروق هذه الفرقة من دين الاسلام فانه لا يحل لمسلم أن يتزوج من نسائهم لقوله تعالى "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" ولو استبان لزوج ان إمرأته تعتنق هذا الفكر لوجب عليه فراقها إن لم تتب، لقوله تعالى "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" ولا يحل لمسلمة كذلك أن تتزوج رجلاً يعتنق هذا الفكر، لقوله تعالى "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم")(المصدر السابق ص 28-33)
.
ولو كان الشيخ عبد الحي، يملك من الورع، ما يجعله ينقل من كتب الجمهوريين، نقلاً صحيحاً، غير مبتور، لناقشنا الحجج التي اوردها، في فتواه البائسة. ويمكن لمن اطلع، على كتب الاستاذ محمود، ان يدرك دون عناء، ان معظم ما أورده عبد الحي، مزور، ومحرف، ومبتور بقصد، حتى يعطي فهماً معاكساً.. ونحن هنا، نكتفي بمثال واحد، مما أورد، لندلل على كذب هذا الشيخ!! فقد كتب عبد الحي (رابعاً: سوء أدبه مع الله وانبيائه ورسله ودينه وقد طفحت بذلك منشوراته ومؤلفاته حيث وصف رب العالمين جل جلاله بالحقد حين يخلد الكفار في النارفقال في كتابه الرسالة الثانية ص78 "وما من نفس إلا خارجة من العذاب في النار وداخله الجنة حين تستوفي كتابها من النار وقد يطول هذا الكتاب وقد يقصرحسب حاجة كل نفس الى التجربة ولكن لكل أجل قدر ولكل أجل نفاد، والخطأ كل الخطأ في ظن ان العقاب في النار لا ينتهي إطلاقاً فجعل بذلك الشرأصلاً من أصول الوجود وما هو بذلك، وحين يصبح العقاب سرمدياً يصبح انتقام نفس حاقدة) (المصدر السابق صفحة 30).
أما النص الحقيقي فهو كالاتي (وما من نفس الا خارجة من العذاب في النار وداخلة الجنة، حين تستوفي كتابها في النار، وقد يطول هذا الكتاب، وقد يقصر، حسب حاجة كل نفس الى التجربة، ولكن، لكل قدر أجل، وكل أجل الى نفاد. والخطأ، كل الخطأ، ظن من ظن أن العقاب في النار لا ينتهي إطلاقاً، فجعل بذلك الشر اصلاً من أصول الوجود، وما هو بذاك. وحين يصبح العقاب سرمدياً يصبح انتقام نفس حاقده، لا مكان فيها للحكمة، وعن ذلك تعالى الله علواً كبيراً) (الرسالة الثانية صفحة 104-105)
وحذف الشيخ عبارة (وعن ذلك تعالى الله علواً كبيراً)، وانهاء النص عند كلمة "حاقدة"، ليصل الى غرضه المبيت، في اتهام الاستاذ بما ذكر، بالاضافة الى دلالته على ضعف الاخلاق، والكذب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يكذب المؤمن)، انما يدل ايضاً على عدم الأمانة العلمية، وضعف التدريب في مجال البحث العلمي، الذي يقتضي الرجوع الى المراجع، ودقة التوثيق.. وهو ما يفترض ان يكون الشيخ قد حصل فيه على درجة الدكتوراة، التي يفضل ان يوصف بها، دون ان يملك ابجديات مقدماتها!!



إلى مجلس أساتذة جامعة الخرطوم
اننا نسأل مدير جامعة الخرطوم، ومجلس اساتذتها، هل بلغ الهوان بهذا المؤسسة العريقة، ان تقبل ان يكون أحد اساتذتها، منذور الحظ من الأمانة العلمية، لدرجة بتر النصوص، التي يفترض ان يناقشها ويقيم على اساسها افكاراً مكتوبة؟! وهل يصح ان يكون مثل هذا الشخص، مسؤولاً عن الثقافة الإسلامية في الجامعة؟! واذا كان الاستاذ الجامعي، مجرداً من أبسط شروط الحياد الفكري، فكيف يشرف على بحوث طلابه، بل كيف استطاع ان يحصل على درجته العلمية؟
!
ولعل ما يدعو للتشكيك في الدرجات العلمية، التي تمنحها الجامعات السودانية، وفي مقدمتها جامعة الخرطوم، ما لحق بالتعليم من خراب، في الآونة الأخيرة.. حيث تدخلت السلطة السياسية، حتى في المستويات والنظم الاكاديمية، بغرض كسر مقاومة الجامعة السياسية، واحكام السيطرة عليها، وترفيع الحكومة للموالين لها، من عديمي الكفاءة.. فقد كتب استاذ جامعي عريق هو الدكتور محمد سعيد القدال (فتحولت الجامعة من مؤسسة قومية اكاديمية الى حظيرة خلفية لحزب سياسي حيث يتم التعيين والترقيات فيها بالولاء الحزبي) (الصحافة العدد3927 بتاريخ 5/5/2004).. ولقد كان سبب نقد د. القدال لجامعة الخرطوم، هو منحها لدرجة الماجستير والدكتوراة، لأحد رموز الجماعات الإسلامية، وهو لا يعرف حتى كيف يرتب مراجع البحث، بل انه يشتم الاشخاص الذين يتعرض اليهم في رسالتة الدراسية، بألفاظ تشبه شتائم الوعاظ، وخطبهم التكفيرية، ولكنها لا تقبل، في مضابط لغة البحث العلمي!! ولقد استغرب د. القدال، كيف تجاز رسالة دكتوراة بهذا الضعف، والخلل، فذهب يبحث عن الاستاذ المشرف، فوجد انه أيضاً من رموز الحركة الاسلامية، وانه هو نفسه، لا يملك درجة علمية، تؤهله ليمنح الدرجات العلمية للآخرين!! كتب د. القدال (أشرف على الرسالتين الاستاذ حافظ الشيخ الزاكي. وأمر هذا الاستاذ مع جامعة الخرطوم مثير للعجب. فبعد ان تخرج من جامعة الخرطوم عمل بالمحاماة والسياسة... ولكنه لم يمارس أي نشاط أكاديمي سواء كان نظرياً أو عملياً الا حصوله على درجة الماجستير. وفي بداية حكم الجبهة عام 1989 استدعي من منزله وعين عميداً لكلية القانون امام دهشة الوسط الجامعي. ولقى تعيينه معارضة قوية ولكن السلطة القابضة على زمام الأمور والمدير فرضوه فرضاً... ولم يمر الاستاذ حافظ بمعاناة التحضير للدكتوراة ولا بمشقة البحث العلمي... ثم اصبح الاستاذ الزاكي يشرف على رسائل الدكتوراة والماجستير فما هي النتيجة؟ النتيجة هي هذه الرسائل التي تفقد أغلب مقومات البحث الاكاديمي) (المصدر السابق).
لقد هدد اساتذة جامعة الخرطوم بالاضراب، في مواجهة القرار الجائر، الذي يقضي باحالة الاستاذ الجامعي للمعاش، في سن الستين.. ووقفوا موقفاً محترماً، خلف نقابتهم الشرعية، فيجب الا تنتهي ثورتهم عند هذا الحد، وانما تستمر لتشمل اصلاح الجامعة.. واول خطوات الاصلاح، مراجعة مؤهلات الاساتذة، لتقدم الكفاءة والخبرة على الولاء السياسي، ومراجعة المناهج، لتقدم الافكار العلمية، على المفاهيم المتخلفة.. فاذا تم ذلك، فان أمثال الشيخ عبد الحي، لن يجدوا مكاناً في الجامعة!! كيف يكون عبد الحي يوسف، بهذا المستوى، مسؤولاً عن الثقافة الاسلامية في الجامعة؟! وما هي الثقافة الاسلامية التي يعرفها، اذا استثنينا دعاوي التكفير، التي يطلقها هنا وهناك؟


إلغاء حكم الردّة
ومن عدم الأمانة العلمية، وعدم الحياد، واتباع الهوى، والغرض، ان يكتب الشيخ عبد الحي: (وصدر الحكم بردة محمود من المحكمة الشرعية يوم 27 شعبان 1388هـ الموافق 18/11/1968م ثم صدر حكم آخر من المحكمة الجنائية رقم 4 بأمدرمان بتاريخ 8/1/1985م ثم قرار محكمة الاستئناف الجنائية بالخرطوم الصادر في 15/1/1985م)(فتاوي العقيدة والمذاهب ص 32).. ذلك ان الفتوى، تقوم على النصيحة، وليس على إخفاء جزء من الحقيقة، واخبار السائل بما يروق للمفتي!! فرغم ان حكم قضاة نميري، وفقهائه، قد ادين سياسياً، بواسطة الشعب السوداني، الذي اسقط النظام بعد 76 يوماً، من تنفيذ الاعدام على الاستاذ محمود، الا انه كان لابد من ادانة الجريمة قانونيا ً، لانها ارتكبت باسم القانون.. فلماذا لم يورد الشيخ عبد الحي ان المحكمة العليا قد ابطلت ذلك الحكم؟! ألا يطعن في صدق الفتوى اخفاء هذه الحقيقة الهامة؟
!
في 25 فبراير 1986، رفعت الاخت الاستاذة اسماء محمود، والاخ الاستاذ عبد اللطيف عمر، عريضة دعوى، تطالب باعلان بطلان اجراءات المحاكمة، التي تمت للاستاذ محمود محمد طه، وأربعة من الاخوان الجمهوريين. ولقد رفعت الدعوى ضد حكومة جمهورية السودان، الى المحكمة العليا، الدائرة الدستورية، وتم نظرها بواسطة السادة القضاة:
السيد محمد ميرغني مبروك رئيساً، السيد هنري رياض سكلا عضواً، السيد فاروق أحمد إبراهيم عضواً، السيد حنفي ابراهيم محمد عضواً، السيد زكي عبد الرحمن عضواً، السيد محمد حمزة الصديق عضواً، والسيد محمد عبد الرحيم عضواً.
وكانت هيئة الدفاع، التي تولت رفع الدعوى، مكونة من السادة المحامين:
د. بيتر نيوت كوك، الاستاذ عبد الله الحسن، الاستاذ عابدين إسماعيل، الاستاذ طه إبراهيم، الاستاذ جريس أسعد، والاستاذ محمود حاج الشيخ. وبعد تقديم هيئة الدفاع مرافعتها طلبت المحكمة، من النائب العام، السيد عمر عبد العاطي، باعتباره ممثل الحكومة، ان يرد على مذكرة الادعاء المرفوعة بواسطة المحامين، فجاء ردّه كالاتي:
1-
نعترف بان المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيد باجراءات القانون.
2-
ان المحاكمة اجهاض كامل للعدالة والقانون.
3-
لا نرغب في الدفاع اطلاقاً عن تلك المحاكمة.
وبعد المداولات، جاء قرار المحكمة العليا، الذي ابطل الحكم الجائر، وانتصر لمصداقية القضاء السوداني، بصورة مطولة، ودقيقة، نقتطف منه هنا ما يأتي:
(
ان محكمة الاستئناف، وفيما نوهنا به، اشتطت في ممارسة سلطتها على نحو كان يستحيل معه الوصول الى حكم عادل تسنده الوقائع الثابته وفقاً لمقتضيات القانون. ويبين ذلك جلياً مما استهلت به المحكمة حكمها حين قالت:
"
ثبت لدى محكمة الموضوع من اقوال المتهمين ومن المستند المعروض امامها وهو عبارة عن منشور صادر من الاخوان الجمهوريين ان المتهمين يدعون فهماً جديداً للاسلام غير الذي عليه المسلمون اليوم... الخ".. وبمراجعة المستند المشار اليه واقوال المتهمين التي ادلوا بها امام المحكمة الجنائية لا نجد سنداً لهذه النتيجة الخطيرة التي نفذت اليها محكمة الاستئناف مما يكشف عن حقيقة واضحة هي ان المحكمة قد قررت منذ البداية ان تتصدى بحكمها لفكر المتهمين وليس لما طرح امامها من اجراءات قامت على مواد محددة في قانون العقوبات وامن الدولة وأدى الى تحريكها منشور محرر في عبارات واضحة لا تقبل كثيراً من التأويل.
وسرعان ما انكشف امر المحكمة، حين وقعت عينها على ما ورد في حكم المحكمة الجنائية من اشارة الى "التوبة" فأعتبرت ذلك "اشكالاً" لا بد لها من ان توجد له حلاً "لأن التوبة ليس منصوصاً عليها في العقوبة المذكورة (تعني عقوبة الاعدام التي اصدرتها المحكمة الجنائية) ولعل محكمة الموضوع جعلتها من قبيل المسكوت عنه الذي يجوز الحكم به وفق المادة (3) من قانون اصول الاحكام لما لاحظت في المنشورات (هكذا بالجمع) موضوع البلاغ من العبارات الموجبة للردّة فحكمت عليهم بالعقوبة الشاملة لحد الردّة مع إعطائهم فرصة التوبة والرجوع الى الصراط المستقيم". واستطردت المحكمة بقولها: "ولكي نقوم هذا القرار التقويم الصحيح لا بد من الاجابة على سؤالين: الاول، هل الردّة معاقب عليها في القانون؟ والثاني، هل كان فعل محمود ومن معه يشكل ردّة وخروجاً على الدين؟"
وفي السؤال الاول خلصت المحكمة الى ان المادة (3) من قانون اصول الاحكام "تعطي حق الحكم في الأمور المسكوت عنها" وان الردّة جريمة ثابته بالكتاب والسنة والاجتهاد، وان المادة 458 (3) من قانون العقوبات تبيح توقيع العقوبة الشرعية ولما كانت الردّة حداً شرعياً فانه يلزم توقيع عقوبتها.
أما بالنسبة للسؤال الثاني، فقد استهلت المحكمة الاجابة عليه بقرار جازم بان "المحكموم عليه محمود محمد طه (هكذا وحده) مرتد باقواله وأفعاله في يومية التحري التي اقر بها امام المحكمة واقواله المدونة المعروفة لدى الناس عامة وافعاله الكفرية الظاهرة فهو تارك للصلاة لا يركع ولا يسجد..الخ"
ثم استشهدت المحكمة بحكم محكمة الاستئناف الشرعية بالخرطوم الذي صدر عام 1968 باعلان ردّة محمود محمد طه واستعرضت بعضاً مما جاء في كتب الجمهوريين وما صدر من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الاسلامي من تأييد لحكم عام 1968 وما صدر من مجمع البحوث الاسلامية بجمهورية مصر العربية من وصف لفكر محمود محمد طه "بالفكر الملحد" وخلصت محكمة الاستئناف الجنائية من كل ذلك الى انه "مما تقدم يتضح ان محمود محمد طه مرتد عن الدين ليس فقط ردّة فكرية فردية وانما هو مرتد بالقول والفعل داعية الى الكفر معارض لتحكيم كتاب الله..."
ولعلنا لا نكون في حاجة الى الاستطراد كثيراً في وصف هذا الحكم فقد تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثاً ومتعارف عليه، او ما حرصت قوانين الاجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليها صراحة، او انطوى عليه دستور 1973 الملغى رغم ما يحيط به من جدل.
ففي المقام الاول اخطأت محكمة الاستئناف فيما ذهبت اليه من ان المادة (3) من قانون اصول الاحكام لسنة 1983 كانت تبيح لها- اولأي محكمة أخرى - توجيه تهمة الردّة..... على ان محكمة الاستئناف لم تكن عابئة فيما يبدو بدستور او قانون اذ انها جعلت من اجراءات التأييد التي ظلت تمارسها المحاكم المختصة في سماحة واناة وبغرض مراجعة الاحكام مراجعة دقيقة وشاملة ، محاكمة جديدة قامت المحكمة فيها بدور الخصم والحكم مما حجبها عن واجبها حتى بفرض صحة توجيه تهمة جديدة في هذه المرحلة في ان تعيد الاجراءات مرة اخرى لمحكمة اول درجة لاعادة المحاكمة بموجب التهمة الجديدة وذلك فيما تقضي به المادة (238) (هـ) من القانون أو ان تتجه الى سماع المحكوم عليهم بنفسها وفاء بواجبها في ذلك بموجب المادة (242) من القانون ذاته، التي، وان كانت ترد في صيغة تقديرية، الا انها تأخذ شكل الالزام عندما يكون السماع ضرورياً. ولا نرى ضرورة توجب السماع اكثر من ان يكون الحكم الذي تقرر المحكمة اصداره بالردّة التي عقوبتها الاعدام.
وقد كان منهج محكمة الاستئناف اكثر غرابة، حين استندت في حكمها على مسائل ليس من شأنها ان تقوم مقام الادلة التي يجوز قبولها قانوناً. ومن ذلك ما اشارت اليه تلك المحكمة من الاقوال "المعروفة للناس عامة" والافعال "الكفرية الظاهرة" في ترك الصلاة وعدم الركوع والسجود.. وما الى ذلك مما لا يتعدى في احسن حالاته الاقوال النقلية والعلم الشخصي وليس في أي منهما ما يرقى الى الدليل المقبول قانوناً ( راجع المادتين 16 و35 من قانون الاثبات لسنة 1983).
ولم تكتف المحكمة في مغالاتها بهذا القدر، وانما تعدته الى الاستدلال بقرارات وآراء جهات لا سند في القانون للحجية التي اضفتها المحكمة على اصداراتها، اما حكم محكمة الاستئناف الشرعية العليا التي عولت عليه محكمة الاستئناف الجنائية كثيراً، فانه يستوقفنا فيه انه حكم وطني يلزم استبيان حجيته نظراً الى ما يمكن ان تثيره طبيعته الوطنية من تساؤل حول تلك الحجية. والحكم المشار اليه صدر في 18/11/ 1968 في القضية 1035 /68 حيث قضت محكمة الاستئناف الشرعية العليا بالخرطوم باعلان محمود محمد طه مرتداً. وأول ما تجدر ملاحظته في شأن ذلك الحكم انه صدر حسبة كما وقع غيابياً، والسؤال الذي يفرض نفسه هو ما اذا كان في ذلك ما يقوم مقام الحكم الجنائي بالردّة؟
وفي تقديرنا ان الاجابة القطعية ان ذلك الحكم لا يستحق هذه الصفة وذلك لان المحاكم الشرعية - ومنها محكمة الاستئناف الشرعية العليا في ذلك الوقت - لم تكن تختص باصدار احكام جنائية، بل كانت اختصاصاتها مقتصرة على مسائل الاحوال الشخصية للمسلمين من زواج وطلاق وميراث وما الى ذلك مما كانت تنص عليه المادة الخامسة من قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 الساري وقتئذ (وليست المادة 6 من قانون 1902 فيما تشير اليه هيئة الادعاء)
.
وابلغ دليل على عدم اختصاص المحكمة الشرعية فيما اصدرته من حكم ان ذلك الحكم جاء غيابياً فما نحسب ان محمود محمد طه كان حصيناً من سلطة الاجبار التي كانت تتمتع بها المحكمة فيما لو كانت محكمة ذات اختصاصات جنائية. كما يقف دليلاً على عدم الاختصاص ان المحكمة لم تجد سبيلاً لتنفيذ الحكم لا في ذلك الوقت ولا في أي وقت لاحق وهو ما لم يكن يحول دونه غياب المحكوم عليه خاصة وان للحكم عقوبة مقررة شرعاً هي أعلى مراتب العقوبات المدنية...... على ان الاثار المترتبة على حجب الاجراءات عن المحكمة العليا وحصرها في محكمة الاستئناف الجنائية، اتخذت شكلها المأساوي حين تم تنفيذ حكم الاعدام على محمود محمد طه، باغفال تام لنص المادة (247) من قانون الاجراءات الجنائية، رغم انه كان من الثابت انه جاوز السبعين من عمر وقتئذ. ولعلنا لا نتجنى على الحقيقة لو اننا قلنا ان تنفيذ الحكم ما كان ليتم لولا ان محكمة الاستئناف اضافت الادانة بالردّة، وهو ما لم يكن ليصدر اصلاً فيما لو كانت الاجراءات قد عرضت على المحكمة العليا بدلاً من ان تستقل محكمة الاستئناف باجراءات التأييد لتنتهي الى ذلك الحكم من خلال المخالفات القانونية والدستورية التي تناولناها فيما تقدم.......
وعلى هدى من ذلك تقرر هذه الدائرة ما يلي:
1-
اعلان بطلان الحكم الصادر في حق المواطنين محمود محمد طه والمدعي الثاني في هذه الدعوى من المحكمة الجنائية ومحكمة الاستئناف.
2-
الزام المدعين برسوم واتعاب المحاماة في هذه الدعوى. ( حيثيات المحكمة في قضية أسماء محمود وآخرين ضد حكومة السودان)
هذا هو حكم المحكمة العليا، على بطلان حكم محكمة الردّة، ومحكمة المهلاوي، ومحكمة المكاشفي.. ولإن كان د. عبد الحي يوسف، كمثقف سوداني، قد أعجب بأحكامهم، فان المثقفين الحقيقيين لهم رأي آخر.. يقول د. منصور خالد (أنا ما عندي أدنى شك في ان الذين حكموا على الأستاذ محمود لا يساوي أي واحد منهم أخمص قدمه في العلم، ناهيك عن الخلق)!! (حديثه لقناة أبو ظبي في برنامج بين زمانين - فبراير 2003).


شيوخ الأزهر أئمة عبد الحي
ولقد اعتمد الشيخ عبد الحي، في تكفيره للجمهوريين، بالاضافة الى سوء الفهم، وسوء التخريج، وخلل النقل من الكتب، وبتر النصوص، ثم حكم محكمة الردّة، ومحكمة المهلاوي، ومحكمة المكاشفي، التي كشفت المحكمة العليا خلل أجراءاتهم، وابطلت احكامهم، الى فتوى رابطة العالم الإسلامي والأزهر.. فقد قال ( فصدرت فتوى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في 5 ربيع أول 1395هـ بردته وانه يجب على المسلمين ان يعاملوه معاملة المرتدين وصدرت كذلك فتوى مجمع البحوث بالأزهر الشريف بتاريخ 5/6/1972 بأن كلام محمود كفر صراح لا يصح السكوت عليه) (فتاوي العقيدة والمذاهب ص 32)
..
ونحن لا نحتفل بفتاوي هذه المؤسسات، لأنها مؤسسات سلطانية، درجت على ممالاة الحكام، وإخراج الفتاوى التي ترضيهم على حساب الحق.. فهل يعتبرهم الشيخ عبد الحي، أساتذته، وأئمته، والمرجع الذي يؤيد دعاويه؟! لقد درج الازهر على تملق الحكام، فلقد كان مثلاً، يحتفل سنوياً بعيد ميلاد الملك فاروق!! ومما جاء في وصف أحدى مشاركاتهم في تلك المناسبة ( فنهض الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر فألقى خطبة جمعت فأوعت في مناقب حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق) وكان مما قاله شيخ الأزهر في تلك الخطبة عن فاروق (انه مثال من مثل الخير العليا وصورة كاملة من صور الفضيلة المحببة للنفوس)!!(مجلة الأزهر - مايو 1939).. وكتبت مجلة الأزهر، أيضاً، بقلم رئيس تحريرها أحمد حسن الزيات، قبل شهرين فقط من الإطاحة بفاروق (وبهدى صاحب الرسالة محمد صلوات الله عليه لسان الوحي ومنهاج الشرع ومعجزة البلاغة وبعطف صاحب الجلالة الفاروق ناصر الاسلام ومؤيد العروبة وحامي الأزهر، أعز الله نصره وجمل بالعلوم والآداب عصره)!!(مجلة الأزهر - مايو 1952).. ولما قامت ثورة يوليو 1952 واطاحت بنظام فاروق، كتب أحمد حسن الزيات نفسه، في مجلة الأزهر نفسها، عن فاروق (وكان آية من آيات أبليس في الجرأة على دين الله، انه كان كما حدثني أحد بطانته المقربين اليه انه اذا اضطرته رسوم الملك أن يشهد صلاة الجمعة خرج اليها من المضجع الحرام وصلاها من غير غسل ولا وضوء، واداها من غير فاتحة ولا تشهد. وكان يقول أخوف ما أخافه ان يغلبني الضحك وانا اتابع الإمام في هذه الحركات العجيبة. وبلغ من جرأته على الحرمات انه كان يغتصب الزوجة ويقتل الزوج ويسرق الدولة)!!(مجلة الأزهر - يوليو 1960 ) ..
ولم يكتف علماء الأزهر، بتملق الحكام، وانما اشتهروا بتكفير المفكرين فقد كفروا د. طه حسين، و كفروا أيضاً الشيخ علي عبد الرازق، وهو من خريجي الأزهر، وطالبوه بارجاع شهادة "العالمية" التي منحوها له، فأرسلها لهم وقد كتب معها "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"!! كما كفروا الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.. واتهم الشيخ التفتنازي وبعض علماء الأزهر عمر لطفي المحامي بالالحاد لدعوته لإقامة الجمعيات التعاونية!! واتهم جماعة منهم على رأسهم الشيخ عليش الشيخ جمال الدين الأفغاني بالإلحاد لأفكاره العلمية، كما كفروا قاسم أمين، بسبب دعوته المناصرة للمرأة!! واتهموا محمد عبده بالزندقة لأنه أفتى بان لبس "البرنيطة" حلال!! (أحمد أمين: زعماء الإصلاح ص111).. ولقد ندم الشيخ محمد عبده، على السنوات التي قضاها يدرس في الأزهر، فقد نقد مرة اسلوب التعليم في الازهر، فقال له أحدهم (ألم تتعلم انت في الأزهر؟ وقد بلغت ما بلغت من طرق العلم وصرت فيه العلم الفرد؟ فاجاب الامام: ان كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر فانني لم أحصله الا بعد ان مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من "وساخة" الأزهر، وهو الى الآن لم يبلغ ما أريده له من النظافة!)!! (محمد عمارة: الأمام محمد عبده ص 55-56) بهذه العبارات القوية، شهد الامام محمد عبده على الأزهر، وهو من خريجيه، بالتخلف، والفساد، الذي يبلغ حد الوسخ
..
ولم يكن مستغرباً، ضمن هذا التاريخ الحافل، ان يكفر الأزهر الجمهوريين، ولكن الغريب، ان يعطي نفسه الحق بالتدخل في شئون السودانيين، فيوجه المسئولين الرسميين في الوزارات، لا ليناقشوا الفكر الجمهوري وانما ليحرضوا السلطة لإيقافه!! ولو كان علماء الأزهر، قد أقاموا الدين في مصر، فخلت من كافة المفارقات، وطبق حكامها الاسلام، لبرئ انشغالهم بالسودان من النفاق..


فساد العقيدة
ونحن نتهم عبد الحي يوسف، باتباع عقيدة الوهابية الفاسدة، التي تعادي السادة الصوفية، وتسيء الى كبار أئمتهم، ومشايخهم، دون ورع، ودون أدب.. وتخالف بذلك، كل موروث الشعب السوداني واعرافه، وقيمه، التي قدها له الله من لحمة وسداة التصوف.. فقد اورد من اسباب تكفيره للاستاذ محمود قوله (وهو في ذلك سارق لافكار من قبله من الغلاة من أمثال محي الدين ابن عربي).. والشيخ أبوبكر محي الدين بن عربي، من أكبر أئمة التصوف، ويسميه الصوفية الشيخ الأكبر، ويعتبرونه (مقرر) والمقرر عندهم أكبر من (العارف).. يقول الشيخ عبد الغني النابلسي القادري النقشبندي :


وقد قال محي الدين وهو المقرر * لنا دولة في آخر الدهر تظهر
وتظهر مثل الشمس لا تتستر


وفي السودان، أحتفل الصوفية بكتب ابن عربي، وأشعاره العرفانية، وجاراه بالتخميس السادة السمانية خاصة الشيخ عبد المحمود نور الدائم، والسادة الختمية، وانشدوا اشعاره المليئة بالمعرفة، وبالتسليك، وليس في المسلمين، من لا يحترم الشيخ الأكبر، غير الوهابية أنصار الملوك!! ولفساد اعتقادهم يشككون في الكرامة، وما يتعلق بها من غيبيات، ويصورون الاسلام، وكأنه فكرة مادية لا علاقة لها بالغيب.. ولهذا يرفض عبد الحي، رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ويقول (من إدعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جهرة يبين له فساد قوله بالحكمة والموعظة الحسنة وما قاله أهل العلم الثقات في ذلك وتقام عليه الحجة، فان اصر على مقالته فلابد من تحذير الناس من شره) (د. عبد الحي يوسف: فتاوي العقيدة والمذاهب ص 52).. لكن أهل السودان، يرون ان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، في المنام، من دلائل السلوك الديني القويم، ورؤيته في اليقظة، من اشارات الترقي الروحي.. ويتحدثون عن ذلك، في مدائحهم، وذكر كرامات شيوخهم.. ومن عجب ان عبد الحي، قد ندد بفساد راي من ادعى الرؤية، رغم اثباته الحديث المشهور، الوارد في البخاري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي) وبدلاً من ان يقف عند هذا الحديث، الذي خطه بنفسه، في كتابه، انصرف عنه، الى عقيدة الوهابية المنكرة !!


إن حكومة الإنقاذ، إنما تراهن على الجواد الخاسر، حين تغض الطرف عن جرائم عبد الحي، وتصر على حمايته، من نتائج أعماله، التي اتسمت بعدم احترام الدستور، والتحريض، والتكفير، والسعي بالفتنة بين المواطنين المسلمين والمسيحيين.. ولإن كانت الحكومة وحزبها، ينتظران الانتخابات، ويعولان كثيراً، على تغيير نهجهما، إلى التسامح، والتفاوض بغرض تحقيق السلام، كاستراتيجية ذكية، لدرء خطر التدخل الأجنبي، فان أمثال الشيخ عبد الحي، لا يخدمون هذا الغرض.. بل يحرجون الحكومة، لو حاولت الدفاع عنهم، أو استمرت في الصمت عنهم، في مناخ دولي يراقب السودان، ويرفع في وجهه تهم الإرهاب، التي يمثل عبد الحي ابلغ نماذجها !! د. عمر القراي