عن الشرعية والشفافية و (الكلام المَغتْغت)!
(مقال منعته الرقابة الأمنية عن النشر)
فتحي الضَّـو
أراق البعض حبراً كثيراً واستهلكوا وقتاً طويلاً في الحديث عن ما سُمي بالشرعية الدستورية، ويعنون بها شرعية الحكومة القائمة، والتي تُسمى زُوراً بحكومة الوحدة الوطنية، وبُهتاناً بحكومة الشريكين، وإفتراءً بحكومة الإنقاذ الوطني، وكذِباً بحكومة الجبهة القومية الاسلامية، وإزدراءً بحكومة المؤتمر الوطني، وصدقاً بحكومة العصبة ذوي البأس. وكأني بالمتجادلين لا يعلمون أن الشرعية المُفترى عليها داستها جنازير دبابات المُنقذين أنفسهم صبيحة الثلاثين من يونيو عام 1989 أي قبل أكثر من عشرين عاماً حسوماً. ولو أن الجدل البيزنطي الدائر الآن أُثير يومذاك وبذات الهِمة والروح لكانت البلاد قد استفادت من امكانات هائلة ضاعت هدراً، وحافظت على أرواح عزيزة أُزهقت غدراً، ووفرت وقتاً ثميناً راح خلسةً. هل يعقل أن يكون الحُكام والمحكُومين قد صحوا فجأة من بعد ثبات عميق، واكتشفوا أن في هذا الكون ثمة تسميات حضارية للحكم والسلطة...ولا ينبغي لمن أراد احترام إرادة شعبه - في إطار المنظومة الدولية التي تواصت على تعريف الشرعية الدستورية - تجاوزها بأية حال؟ هل يُعقل أن تختلط المفاهيم بحيث يتسول (المنتخب) شرعيته ويتوسل (الانقلابي) مشروعيته؟ ولأننا بالفعل نعيش في زمنٍ بائسٍ تغبَّشت فيه المصطلحات وتداخلت معانيها، لم يكن غريباً أن نقرأ لأحد المتنطعين الذين يتضاءل المرء خجلاً من اقتباس كتاباتهم واسمه راشد عبد الرحيم. فقد أراد في مقاله اليومي (الرأي العام 12/7/2009) تبخيس مواقف الذين رفعوا لواء تلك الدعوة، فقال كلاماً مسجوعاً وهو لا يعلم بأنه إرتد عليه «سيطول انتظارهم وهم في سكرة إنتظار الشارع السوداني لدعوتهم له للخروج، وتسليمهم حكماً ما نالوه إنتخاباً ولم يحافظوا عليه عندما نالوه إغتصاباً ويرعبهم أن يقره الشعب السوداني إقتراعاً» فتأمل يا من تزمل بالصبر على الأذى، حال من أراد مدح عصبته فذمها من حيث لا يدري!لسنا قانونيين ولا ندعي كثير معرفة في هذا الحقل، ولهذا لا نريد أن نجاري المتبارين في الجدل القائم حول الشرعية. وليت الأمر توقف على عدم إلمامنا بالمسائل القانونية التي نعلم أنها تفتح ما استغلق على الناس فهمه، ولكن الذي زاد الأمور ضغثاً على إبالة في القضية موضع الجدل، هي أن الحكومة والمعارضة (مع تحفظي الشخصي على هذه التسمية) إرتكنا لدستور نيفاشا المجاز في العام 2005 وطفق طرف يستل من مواده ما يدعم بها وجهة نظره ويعضدها ضد الطرف الآخر، ثم يجيء الثاني ويستشهد بدوره بذات المواد أو اخري شبيهة ليؤكد صحة موقفه. ولهذا لم نجد بداً من أن نعتبر الدستور المشار إليه (حَمَال أوجه) بالرغم من أن الدساتير المحترمة لا تقبل التغيير أو التأويل ولا تأتيها شبهات التفاسير من بين نصوصها ولا من خلفها. ودعونا نتساءل ببراءة عن اسباب حدوث هذه الظاهرة الشاذة والغريبة؟ ولكن قبل الاجابة عليها لابد من الاقرار أنها غريبة وشاذة بالنسبة للدول التي لا تضع اعتباراً لدساتيرها ونحن بحمد الله منهم. ويكفي برهاناً أن عدد دساتيرنا منذ الاستقلال وحتى نيفاشا المشار إليها بلغت نحو عشرة دساتير، هذا بغير ما أُصطلح على تسميتها بالمراسيم الدستورية، وهي (الآيات الشيطانية) التي توطد بها الأنظمة العسكرية سلطاتها الديكتاتورية، بعد أن توحى لمواطنيها أنها دساتير محترمة وواجبة التنفيذ. ومن المفارقات أن جميع الدساتير - بما فيها التي تمت إجازتها في ظل الأنظمة البرلمانية - لم تكن سوى وريقات صفراء في يد الحاكمين أو الطامحين في وراثتهم (مذبحة الحزب الشيوعي في العام 1965 نموذجاً) أي كانت على الدوام قابلة للتعديل والتحوير والتمزيق إن شئت. ورغم الانتهاكات المتكررة بما فيها التي حدثت في رابعة النهار، فمن عجب أن هذا البلد المغرر بشعبه لم يشهد خروجاً جماعياً ذات يوم بغرض حماية دستور ما من أيدٍ عابثةٍ!بيد أننا لن نذهب بعيداً وسنحصر الأمر في إطار دستور نيفاشا 2005 ويبقى التساؤل قائماً، لماذا غدا هذا الدستور حمال أوجه كما ذكرنا؟ الاجابة ببساطة تؤكد أن ذلك جاء من ثنايا الواقع الذي أنتجه، ولعل التمحيص في هذا الواقع يمكن أن يضفي عدم الشرعية على هذا الدستور نفسه، أي بدعوى أنه لم يكن ثمرة إرادة شعبية غالبة، وهي كما يعلم الجميع الرافعة التي تستند عليها الدساتير لتكسب شرعيتها واحترامها وديمومتها. فالمعروف أن هذا الدستور جاء من رحم اتفاقية السلام وهي ما كانت حكراً على طرفيها، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان، ولا يستطيع أحدهما أو كلاهما معاً إدعاء تمثيل كل الشعب السوداني، لا جغرافياً ولا ديمغرافياً، رغم الايحاءات اللفظية والنصية في الاتفاقية والتي توحي لكأنما المؤتمر الوطني نصَّب نفسه نيابة عن أهل الشمال، بينما الحركة الشعبية إعتبرت كيانها ممثلاً لأهل الجنوب. ومن ناحية أخري يمكن القول أن القاسم المشترك الأعظم بين الطرفين إنهما فرضا (شرعيتهما) من خلال البندقية، فالانقاذ أو المؤتمر الوطني إكتسبها من خلال الانقلاب والحركة الشعبية عن طريق (الشرعية) الثورية، علماً بأن مصطلح (الشرعية) لا يحتمل أي مترادفات لا تمت للشعب مانح الشرعية بِصِلةٍ. المهم أنهما بتلك الصفة أعدا وناقشا وأجازا دستور نيفاشا لوحدهما، وعليه لا يستطيع طرف منهما أن يدعي ارادة شعبية كاسحة تقف من وراء هذا الدستور. وإمتثالاً للقاعدة الذهبية التي تقول أن فاقد الشيء لا يعطيه يستطيع أي مجادل أن يقول أن (شرعية) هذا الدستور منقوصة طالما أن الذين اقروه لا يمثلون كل أهل السودان أو على الأقل أغلبيته الساحقة. بل أن تلك الأيام شهدت قولاً لا يمت للحرية وإخواتها بِصِلة، إذ قال ياسر عرمان في مؤتمر صحفي (15/5/2005) أقامته مفوضية الدستور «إن أي جهة لا تعترف بالدستور وبإتفاقية السلام يصعُب عليها ممارسة نشاطها السياسي» بناءاً على كل ذلك فنحن نرى أن رفض عصبة المؤتمر الوطني أي دعاوٍ تهدف إلى التشكيك في (شرعية) الحكومة يتسق تماماً مع طبيعتها، وبنفس القدر عندما تقف الحركة الشعبية موقفاً متردداً في البداية ثم منحازاً للمؤتمر الوطني في الرفض فهي تنسجم أيضاً مع واقعها. في حين تأتي دعوة الذين أثاروا القضية وهم المعارضون الذين ينضوون تحت راية التجمع الوطني الديمقراطي أقرب إلى الواقع، لأنهم لم يكونوا طرفاً أصيلاً في الاتفاقية، وبالتالي لم يشاركوا في وضع ومناقشة وإجازة الدستور مثار الجدل!إذاً ففي مثل هذه المواقف الضبابية يبقى اللجوء إلى الشعب مانح الشرعية أمر طبيعياً ولا غبار عليه، وهي الدعوة التي حمل لواءها السيد فاروق أبوعيسى وهو القانوني الضليع الذي لا يشق له غبار، وله خبرة سياسية ثرة في المقترح المذكور من خلال تجربة اكتوبر 1964 وهي تجربة مماثلة إلى حد ما، وقد وضعت بصماتها في الحياة السياسية السودانية. ويبدو أن الذى قلل من فاعليتها أو لم يمض به إلى نهايتها المنطقية بعد إنتهاء الأجل المضروب للحكومة (9 يوليو2009) هو عدم الاتفاق على ذات الدعوة وسط القوى التي يفترض أنها حليفته. وكان أبوعيسى قد اقترح ايضاً انسحاب كتلته من المجلس الوطني، ويبدو المقترح منسجماً مع الدعوة بالرغم من أن البعض يراها متأخرة، ومع ذلك لا يستقيم عقلاً أن لا يبدأ المرء بنفسه، ولكن من سوء حظه أن ذلك ما استنكفه الحزب الاتحادي لشيء في نفس زعيمه السيد محمد عثمان الميرغني، الأمر الذي جعل من مقترح ابوعيسى ريشةً في مهب الريح. المفارقة أنه بالرغم من أن المقترح لم يتعد الاطار النظري، ناهيك عن محاولة مقاربة إعادة سيناريوهاته مثلما حدث في اكتوبر 1964 إلا أنه كان مصدر قلق للعصبة ذوي البأس، التي استكثرت لجوء خصومها للشارع في حين أنها عندما جاءت للسلطة لم تستشر من هذا الشارع لا إنساً ولا جان. ثم منحت بعض أزلامها ضوءاً أخضراً، فإنبرى كتاب (العرضحالات) إلى شن حملة شعواء على أبوعيسى، استخدموا فيها الفاظاً جارحة أقل ما يقال عنها أنها غير محترمة، وإن كانت تتوافق مع كاتيبها وطبيعة نفوسهم المريضة! كلنا يعلم أن للشرعية قصصاً لا تخلو من محن في الواقع السوداني. ففي سياق التوثيق أو الكتابة عن تاريخ السودان السياسي بعد الاستقلال 1956 وحتى الآن يُجمع كثير من الكُتاب على أن حظنا في هذا الدنيا أوقعنا بين سندان ثلاث حكومات برلمانية عاجزة، ومطرقة ثلاث أنظمة عسكرية قاهرة، وهي ما يسميها البعض حياناً بالديكتاتورية وأحياناً أخر بالشمولية، وبينهما فترتان إنتقاليتان كسيحتان. ومن منطلق أن الشعب هو مانح الشرعية - كما ذكرنا - يبقى أمر إضفاء تلك الشرعية على الحكومات البرلمانية أمراً جائزاً ومقبولاً، لأنها على الأقل نتاج انتخابات حرة ونزيهة وعادلة وفقاً للمعايير الدولية المتعارف عليها. بمثلما أن نزعها عن الأنظمة العسكرية أو الديكتاتورية لا غبار عليه أيضاً، لأنها أنظمة تسلطية وليدة ظروف انقلابية تتقاطع تماماً مع الارادة الشعبية الانتخابية الحرة. والمعروف إنه حال ما يستتب لها الوضع تعمل على التحايل بطرق عدة من أجل إكتساب الشرعية المفقودة. ولعل لنا في الوضع القائم أسوة سيئة فالانقاذ رغم أنها هدمت الشرعية الدستورية من قبل أن تجلس القرفصاء على سدة السلطة، كان السيد الصادق المهدي قد مهَّد لها الطريق وفرشه ورداً. جاء ذلك في المذكرة التي وجدت بحوزته أثناء محاولته الهروب بعد الانقلاب وقال إنه كان بصدد تسليمها للانقلابيين والذين خاطبهم قائلاً «معكم سلاح القوة ومعنا الحق» واضاف ما هو أنكى، إذ قال إنه إختفي ليتبين طبيعة الانقلاب «إن كان أجنبياً قاومناه وإن كان وطنياً فاوضناه» علماً بأن ذلك حديث لا ينبغي أن يتفوه به من أدى القسم لحماية (شرعية) النظام من أي اخطار تتهدده بغض النظر عن هويتها!بناءاً عليه يبدو لنا أن وصف الحكومة القائمة الآن بحكومة الأمر الواقع، سيكفل لنا مخرج صدق من مأزق الشرعية المفقودة، ويمكن حينئذ التصدى لها بأي وسيلة من الوسائل التي تتواءم مع شرعيتها المنقوصة. والمفارقة أن مصطلح حكومة الأمر الواقع استمددناه من الشريك الحالي (الحركة الشعبية) وقد وصمت به آنذاك الذين رفعوا لواء عدم الشرعية الآن، علماً بأنهم يومذاك كانوا الأجدر بوصف الشرعية لأنهم جاءوا للسلطة عبر الصندوق الانتخابي. ومن خلال هذه (اللوغريثمات السياسية) يبدو لنا أن العصبة ذوي البأس يفترض أن تكون أكثر الأطراف سعادة حينما تجد خصوماً يخاطبونها بلغة حضارية، وينظرون للخلافات بمعايير القانون والشرعية الدستورية، وهي مصطلحات لا تنسجم مع طبيعتها بل كثيراً ما أعلنت على الملأ عدم احترامها لها، ولعل خصومها جرَّبوا معها طريقة ناجعة من قبل، جاءت على سنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تلك التي قصد بها جيرانه المحتلين الذين استباحوا أرض وعرض الأمة العربية، وكلنا يتذكر الهلع والجزع الذي انتاب العصبة يومذاك، أي يوم أن رفع خصومها معارضتهم لها على أسنة البنادق! موازاة مع وصف الشرعية الذي راج وهماً، لعل البعض لاحظ أن سلطة الأمر الواقع اكثرت في الآونة الأخيرة من استخدام مصطلح الشفافية، بل أقامت لها مؤتمراً منتصف يونيو الماضي، وأسمته (منتدى شفافية الأداء المالي والحكومي) وكان بإشراف الأمانة العامة لمجلس الوزراء بالتنسيق مع وزارة العدل والمالية والاقتصاد الوطني وديوان المراجع العام. وقد إختاروا له شعاراً جذاباً لن تجد له مثيلاً إلا في دهاليز الأنظمة الراسخة في الديمقراطية (الشفافية ترسم معالم الحكم الراشد) وقد تزامن ذلك المنتدى مع التقرير الذي دأبت منظمة الشفافية الدولية على اصداره سنوياً، وبموجبه إحتلت الدولة السودانية ذيل القائمة مع دول أخري. وبالرغم من أن ذلك لم يكن امراً جديداً فقد ألفه الناس على مدى العقدين الماضيين، إلا أنه كان مدعاة للسيد كمال عبد اللطيف وزير الدولة بمجلس الوزراء أن لا يكتفي بنفيه فقط (الأحداث 15/6/2009) وإنما بالتأكيد على أن «ديوان المراجع العام له سلطة مراقبة الدولة وإطلاع البرلمان على التقارير مباشرة» ثم اضاف بشيء من الزهو والفخر «أتحدى أي دولة في العالم لها جهاز مراجع عام مثل السودان» ولا ادري إن كان يدري أن هذا التحدي سيوقعه في براثن مأزق كبير، ولكني على يقين بأن السيد عبد اللطيف يدري أنه حتى راعي الضأن في الفلوات يمكن أن يحصي له من الدول ذات الشفافية ما لايستطيع معه صبرا!فيسمح لي السيد عبد اللطيف أن أزجى له التهنئة من على البعد ابتداءً، فقد ترسخت لدي قناعة بأنه صانع المعجزات بين قومه، بدليل أنه خلق من (فسيخ) مؤتمر الاعلاميين بالخارج (شرباتاً) وذلك على حد زعم بعض الحضور الذين تباروا في ذكر محاسن عبد اللطيف حتى نسوا المناسبة التي ضربوا من أجلها أكباد الأبل، وما علينا فذاك منهل آخر. ولكن في تحديه هذا يا ليت سيادته ألحق به من باب (الواقعية السحرية) التي عجت بها روايات غبريال جارسيا ماركيز كلمة (بدون فاعلية) لكان قد كافانا مغبة هذا التعليق، ولِكُنا قد انحنينا له تبجيلاً وتوقيراً واحتراماً. ذلك لأنه يعلم أن ديوان المراجع العام - مصدر فخره ومنبع زهوه - ظلَّ يُصدر تقاريره بانتظام العام تلو العام، ولكن ما أن تخرج من مخبئه لتعانق الهواء الطلق حتى تصبح لا حول لها ولا قوة، وفي ذلك اكتفي بمثالين عن قصص العالم الباطني الذي اصبح يسميه المغرضون في المدينة بالفساد والافساد. هذان المثالان أحدهما كتاب لمؤلفه دكتور حيدر إبراهيم بعنوان (سقوط المشروع الحضاري) وثانيهما كتاب للعبد الضعيف إلى ربه وكان بعنوان (السودان/سقوط الأقنعة) وفيهما قصص عن ذاك العالم المثير بما يكفي لدحض أي شفافية مزعومة، وينفي أي صفة أسبغها سيادته على ديوان المراجع العام بكرم حاتمي. وبغض النظر عن النماذج المذكورة هل يمكن للسيد عبد اللطيف أن يحدثنا عن حالة واحدة نجح الديوان في توصيلها لنهايتها الطبيعية؟ وعوضاً عن اطلاق التسميات على عواهنها، فليدعم لنا قوله بمحاكم عُقدت أو مشانق نُصبت لمفسدين مشوا بخيلاء بين الناس كما تمشى الطواويس؟ ومع ذلك وطالما رمى بقفاز التحدي نستطيع أن نحصى له دولاً من فسطاط الكفر – على حد تعبير – ساكن كهوف تورا بورا، بلغت فيها الشفافية مرقىً لدرجة يمكن ان يستقيل فيها المسؤول لمجرد أن بغلة تعثرت بحرم وزارته. ونستطيع أن نعد له دولاً صارت الشفافية فيها راتباً يقرأه مواطنوها صباح مساء. ونستطيع أن نذكر له دولاً قدم فيها وزراء رؤوسهم قرباناً عن ذنب إقترفه موظف بسيط تحملوا مغبة خطئه. فما جدوى تقارير يا سيدي لم يحاكم بسببها مسؤول واحد طيلة عشرين عاماً، ما جدوى أن يجتهد الديوان في تقارير تزلزلت لها الأفئدة، وكادت أن تخرج جراءها العيون من محاجرها...ومع ذلك كان مصيرها أقرب سلة مهملات؟ نعم...لكل دولة ثقافتها، ونزعم في هذا الصدد أننا اهدينا البشرية شيئاً في هذا الخصوص، إذ يعلم السيد عبد اللطيف أن قاموسهم استعاض عن الشفافية بكلمة نقيضة من صميم أمثالنا الشعبية، بل من كثرة تردادها كادت أن تصبح نفسها مثلاً يُضرب بين الناس. تلك العبارة المأثورة نطق بها الدكتور على الحاج يوم أن اختلف الجمعان بين قصر ومنشية، وبدأت الفضائح تترى من الأفواه التي أوهمت مواطنيها بأن ربها ما خلقها إلا لذكره والتسبيح بحمده. فإذا بها تخرج قصصاً مثيرة أعادت للأذهان روايات، مسليمة الكذاب وأبو رغال وأبو لهب وبني النضير وبنو قينقاع. يومذاك كان ابناء يعقوب يبحثون عن ذئب يسلخون جلده ويحشونه اكاذيبهم، فلاح لهم دكتور على الحاج في الأفق وهو مثقل أصلاً بماض لا يقل جدلاً. ومن جانبه لاذ بثقافتنا الشعبية تلك فوجد ضالته في العبارة الشهيرة (خلوها مستورة) وهي ذات ما عناه الشاعر محمد طه القدال بـ (الكلام المغتغت) ولكننا حتى الآن لا نعلم على وجه الدقة من المخاطب؟ هل نحن أم هم؟ لكن فيما بدا لنا أن ذلك ليس بذي بال، بدليل أن الحاج قال قولته تلك واستبقى نفسه بين ظهراني عصبته ردحاً من الزمن، ومع ذلك لم يقل له أحداً يا أخانا في الله...لقد نطقت كفراً أو جزاك الله عنا خير الجزاء. ولكنه بعد أن ادبر عن البلاد التي تتستر على القوي وتقيم الحد على الضعيف. سمعنا رأس الهرم المشير عمر البشير يقول له في لقاء جماهيري يوم 20/7/2002 وهو من شاكلة تلك اللقاءات التي أدمنا مشاهدتها، وكانت بمناسبة افتتاح المرحلة الأولي من ذات الطريق المنهوب..إذ قال: «الذين نهبوا أموال اليتامى والمساكين خليناهم لي الله» وبدورنا نقول نحن أيضاً...نعم (خليناهم لي الله)...إنه سميع مجيب!!