الأربعاء، 15 يوليو 2009

على خطى الانقاذ: من الجهاد الى المساج!


غربا باتجاه الشرق

على خطى الانقاذ: من الجهاد الى المساج!

مصطفى عبد العزيز البطل

(1)

عندما بدأت (الأحداث) صدورها عام ٢٠٠٧م، كانت زاويتي الأسبوعية تُنشر على صفحة تجاورني فيها زميلتنا الكاتبة الراتبة الأستاذة منى عبد الفتاح. ولكن مدير تحرير الصحيفة لأمر ما حرمني جوار منى وأبدلني عنه جوار الشيخ العلامة الدكتور عبد الله حمدنا الله. وقد طاب لي جوار الشيخ بعد ذلك، مع بعض الحنين إلى الجارة القديمة. وأنا من مدمني كتابات منى التي تغلب عليها صفوية الموضوع ورفعة المعاني وجلال اللغة وعذوبة الأسلوب. وكدت من فرط إعجابي أن أطلق عليها لقب (سيدة كتاب وكاتبات الصحافة السودانية)، لولا انني خفت أن أجد نفسي متربعاً على سطح ذات القطار الذي تسطحه من قبل زهير السراج، عندما أراد أن يعبر عن إعجابه بالشاعرة روزمين عثمان، فضاع بين محطات السكة الحديد وتاهت عليه دروب العودة!
مؤخراً بدأت منى تعيد نشر كتاباتها في المنبر الالكتروني المتميز (السودان للجميع). وقد لفتت نظري مداخلات المعلقين على مادة بديعة أعادت نشرها بعنوان (شفت التوب)، تغنت فيه بالخصائص الجمالية والوجدانية للتوب السوداني ودعت بنات جنسها للاستمساك بعروته في مواجهة مظاهر الردة. فكتب الفنان التشكيلي العالمي والناقد المعروف المقيم بفرنسا الدكتور حسن موسى التعليق القصير التالي: (شفنا ما هو أجمل من التوب. شفنا الكتابة). وأذكر انني قلت لمنى أن هذا التقريظ يعني شيئاً واحداً وهو أنها بلغت في صنعة الكتابة شأواً بعيداً، فالذين يعرفون الناقد الدكتور حسن موسى يعرفون لزوماً انه أدنى إلى البخل في بُذلان الثناء وأقرب إلى التقتير في إهداء الأنواط، وأن الحصول على إجازة منه في مادة إبداعية دونه خرط القتاد. وعرب الجزيرة يقولون: (الشين عجبو قاسي). وحسن ليس شيناً، بل هو زين، لولا انه كتب (أشغال العمالقة) فكدّر صفاءنا وعكَّر مزاجنا، نحن معشر أصدقاء الشاعر محمد المكي إبراهيم.
لاحظت بأخرة تحولاً مفاجئاً في اختيار منى لموضوعاتها. أخذت كاتبتنا في التصدي لقضايا أقل نخبوية ورومانسية وأكثر اقتراباً من صفوف عامة الناس. تمد يدها وتأخذها من المجرى العام للحياة اليومية حيث التعب والعرق والروتين والاعتيادية، ثم تعالجها معالجة خلاقة شديدة الرقي. وأنا أجد في هذا التحول انحيازاً محموداً لسواد الناس، يشبه إلى حد كبير سلوك كوكب الشرق أم كلثوم، حين كانت تخرج بفرقتها الماسية من مسارح الصفوة المخملية إلى مسارح العامة الشعبية، فتغني مجاناً أو بتذاكر مخفضة للفقراء من غمار الناس الذين من حقهم أن يسمعوا ويطربوا، وأن يعنوا بتنمية ذائقاتهم الفنية.

(2)

وقفت متأملاً وأنا (أدحّش) قبل أيام في مساحة الأستاذة منى كلاماً عن ظاهرة انتشار مراكز التدليك والمساج في أحياء الخرطوم. عنوان المقال (فقه النظام في تدليك الأجسام). وقد أبدت الكاتبة دهشتها من انتشار هذه الظاهرة فكتبت: (الشئ الغريب فعلاً هو أن الخرطوم ليست أي عاصمة، إنها عاصمة دولة "المشروع الحضاري الإسلامي"). ثم كتبت: (.. والسؤال هو: من نحن وكيف نتشدق برعاية الفضيلة ونعمل في نفس الوقت بمنطق الغاية تبرر الوسيلة). ثم طرحت عدة تساؤلات حول تاريخ حكم الانقاذ الطويل في سياسات التقييد والمنع العام ضد المجتمع كتقييد ومنع الحفلات ومنع الاختلاط ومنع ستات الشاي من بيعه بدعاوى الحفاظ على الأخلاق العامة، ثم سماحها بعد ذلك للنساء بتدليك أجساد الرجال لقاء مدفوعات مالية تتحصلها الدولة عند اصدارها الترخيصات اللازمة! دلتني منى وقد رأت اهتمامي بالأمر إلى خبر مطول نشرته صحيفة (الوطن) منتصف الشهر الماضي. لفت نظري في الخبر جزئيتين. الأولى إشارة إلى (اجتماع يضم المدعي العام ورئيس نيابة أمن المجتمع ومدير شرطة أمن المجتمع من ناحية، وكل أصحاب مراكز المساج بولاية الخرطوم بما فيها مراكز المساج بالفنادق من ناحية أخرى). وقد استغربت لورود كلمة (مساج) في هذه الجزئية ثم في الخبر ككل تسعة مرات، دون أقواس أو شروحات. مما يدل على أن (المساج) لفظاً ومعنى قد أصبح مما هو معلوم من أمور الحياة بالضرورة في سودان الانقاذ. وذلك مع أنني – برغم إقامتي الطويلة في بلد كالولايات المتحدة - وجدت شيئاً من الصعوبة في استيعاب اللفظة حين قرأتها في الصحيفة للوهلة الأولى وبذلت جهداً للتحقق من معناها. والثانية هي ما أورده الخبر منسوباً للسيد خلف الله الرشيد رئيس القضاء الأسبق من استنكاره ظاهرة انتشار مراكز (المساج) في العاصمة، وانزعاجه من وجود أحدها بجوار منزله هو شخصياً بمدينة الرياض مما حدا به إلى اتخاذ قرار بمغادرة منزله والانتقال إلى منزل جديد ينأى به عن موارد الشبهات. ووصف رئيس القضاء السابق ظاهرة انتشار مراكز المساج في العاصمة بأنها من الأشياء الدخيلة على شعب السودان. ولفت نظري على وجه التحديد مطالبته للسلطات بالقيام (بزيارات مفاجئة) لهذه المراكز، وقوله (نعيش حالة من التوتر)، ثم تفسيره حالة الضيق من هذه المراكز بقوله: (.. بسبب العربات التي تتكدس أمام المنازل المجاورة لهذه المراكز). ولا بد للإنسان أن يكون معاقاً عقلياً حتى يستعصي عليه فهم مدلولات العبارات السابقة المنسوبة لشخصية سودانية ذات وزن مهني وسياسي قومي مقدر. ومولانا خلف الله الرشيد رئيس القضاء السابق من أهل الوسطية. لم يُعرف عنه الشطط والتعسير والتطرف، فسيرة حياته المهنية الزاخرة في سلك القانون، ومنهاجه السياسي الراشد في قيادة الحزب الاتحادي الديمقراطي خلال حقبة الديمقراطية الثالثة يشهدان للرجل بدرجات متناهيه من التوازن والاعتدال في الفكر والتعبير والسلوك العام.

(3)

في الولايات المتحدة ولاية واحدة فقط تسمح بممارسة الدعارة كخدمة ومهنة ومنشط وهي ولاية نيفادا، بينما تحظر الدعارة قانوناً بقية الولايات. وفي نيفادا هناك نوعان من التصديقات لمراكز المساج، الأول اسمه تصديق (نشاط المساج المحدود) والثاني اسمه تصديق (الخدمة الكاملة). وفي النموذجين يخلع طالب الخدمة أغلب ملابسه ويستلقي على أريكة فتأتي الفتاة وتدلك جسمه ثم ينصرف لحال سبيله إن هو أراد. ولكن في مركز (الخدمة الكاملة) يجوز للزبون بعد اكتمال المساج أن يطلب من الفتاة، لو أنها أعجبته، ممارسة الجنس فتكتمل الخدمة. وباستثناء المساج الطبى الذى يمارس بناء على وصفات علاجية على يد متخصصين فى مراكز معينة، فإن سمعة مراكز المساج الاخرى المتناثرة فى الولايات الخمسين لم تكن يوما فوق الشبهات. ولا يمر شهر دون ان تبث وسائط الاعلام خبرا عن مداهمات شرطية لمراكز مساج. آخر هذا المسلسل فى بلد العم سام كان قبل اسابيع قليلة حين عرضت شبكة سى بى اس تحقيقا عن عدد من مراكز المساج فى ولاية اوكلاهوما تخصصت فى تقديم الخدمات الجنسية الكاملة وشبه الكاملة بواسطة مهاجرات من المكسيك وامريكا الجنوبية. وفي بريطانيا يحظر القانون ممارسة الدعارة ولكن (الخدمات الاضافية) التي يتم تقديمها تجاوزاً في صالات المساج المصدق بها هي عند البعض من قبيل العلم الذي لا يضر. وفي أستراليا يتم الحصول على تصديق صالات المساج من البلديات وتصدر تصديقاتها من نفس المكاتب التي تمنح تصديقات ممارسة الدعارة. وفي بلدنا المبروك، السودان، لا أعتقد أن هناك من يجادل في أن التصديقات التى تمنحها السلطات المحلية لمراكز المساج تقتصر على النموذج الأول الطاهر العفيف الذى لا شبهة فيه. و المؤكد أن الممارسات المساجية في هذه المراكز منضبطة تماماً وتحفها مكارم الاخلاق. أما أنواع (الخدمة الاضافية)، الكاملة أوشبه الكاملة، التي يشتبه في إمكانية حدوثها فلا تعدو في أغلب الظن أن تكون أوهاماً ووساوس تعشعش في رؤوس بعض رؤساء القضاء السابقين!

(4)

لا أدري لماذا خطرت ببالي وأنا أتأمل (إشكالية الانقاذ والمساج) نظرية عبد الرحمن بن خلدون حول قيام الدول وأفولها. يا لتغير الأزمان والأحوال. أذكر تماماً في النصف الأول من التسعينات أنني أوصلت قريباً لي وعروسه كانا مسافرين لقضاء شهر العسل خارج السودان إلى مطار الخرطوم، فرفض بعض المسئولين في المطار – مهتدين بهدى الانقاذ - السماح للعروس بالتوجه إلى الطائرة لأن رأسها لم يكن مغطى بالحجاب وفق المواصفات المطلوبة. وأتى علينا حين من الدهر كان الشباب من الجنسين يسَّاءلون – سؤال الملكين - من قبل المحتسبين الذين كانت العاصمة قد فاضت بهم حتى أترعت، إن هم ساروا في الطرقات ذكراً وبجانبه أنثى دون حيازة وثائق تثبت براءة العلائق من كل شبهة. سبحان مغير الاحوال! كيف انتهى المآل بالانقاذ الى هذا الحال؟ كيف أسرى نظام الراشدين بشعبه من (المشروع الحضارى) إلى المشروع المساجي؟ من كان يصدق أن الخرطوم تحت سمع وبصر السلطات، بل بتصريحها ومصادقتها ومباركتها وتشجيعها صارت أحياؤها تعج بمراكز للمساج، يخلع الرجال فيها ملابسهم ويرقدون على الأرائك فاكهين، عراة إلا من ورق التوت، كما السكسون والفرنسيس، وتطوف عليهم الفتيات – سودانيات وطنيات وأخريات مستقدمات من الهند والسند وبلاد تركب الأفيال – ليدلكن بأيديهنَّ الناعمة أجساد الرجال المفتولة؟! أترى أن العصبة المنقذة قدّرت فى لحظة من لحظات تجلياتها النورانية أن شعبها الذى تخبطت به فى دروب الجهاد خبط عشواء ردحا طويلا، حتى تورّمت قدماه وانقصم ظهره، يستحق بعض (الريلاكسيشن) فقررت أن ( تدلكه) فملأت أحياءه السكنية بصالات المساج؟!

حقا ان من يعش رجباً يرى عجبا. وقد عشنا عشرين رجباً، ورأينا كيف أن عجائب الانقاذ لا تنقضي!

جائزة الطيب صالح للرواية
أعلنت اللجنة المشرفة على جائزة الطيب صالح للرواية قبل عدة اسابيع عن منح الجائزة فى الدورة الحالية للكاتبة صباح سنهورى عن قصة قصيرة تقدمت بها بإسم ( العزلة ). ومنذ ذلك الاعلان الذى تبعه نشر الرواية فى عدد من الصحف، جحظت عيون وارتفعت حواجب كثيرة بعد ان تبين لمن قرأوا القصة الفائزة جسامة بعض الاخطاء اللغوية التى اشتملت عليها. الكاتب الراتب بهذه الصحيفة الاستاذ محمد عثمان ابراهيم كان من هؤلاء الذين غمرتهم الدهشة. كتب فى احدى المنابر التى ناقشت القضية: ( ما لم احتمل ان يبقى، هو ما كشفت عنه قراءتى للفقرتين الاولى والثانية اللتان احتوتا بطمأنينة مفجعة ثلاثة اخطاء لغوية فادحة قد لا تؤهل مرتكبها للولوج من باب المسابقة أصلا لو كان الزمان غير الزمان والمكان غير المكان، وربما لجنة التحكيم غير لجنة التحكيم). ثم أبرز محمد بعض الاقتباسات من الاخطاء النحوية الجسيمة التى تعضد ملاحظته كما جاءت فى الفقرتين الأولى والثانية المشار إليهما نحو ( في الضلعان القصيران / وفي الضلعان الطويلان/ في إحدى الضلعان الطويلان). ويتضح بإعمال قليل من النظر في هذه الاقتباسات كيف أن مظاهرالضعف المريع فى أبجديات النحو العربي قد بلغت مبلغا تغلغلت معه في أوساط النخبة الأدبية (المفترضة) والحاصلين على جوائز الأدب ومانحيها على حد سواء.
وفى موقع آخر رصد الروائى هشام آدم ثمانية جمل بها أخطاء لغوية أقل ما يمكن أن يقال عنها انها فادحة تستعصى على التبرير بما فيها خطأ فى التذكير والتأنيث، أى ان كاتبة القصة الفائزة ما زالت ،فى الواقع، فى مرحلة يستعصى عليها التفرقة بين ما هو مذكر وما هو مؤنث. ورصد الروائى هشام آدم كذلك سبعة جمل غير مفهومة تماما من شاكلة ( جيد، هذه الرقعة تكفى، انتهى العسل). وقد أشارت الاستاذة نجاة محمد على المترجمة والمشرفة على المنبر الالكترونى المرموق (السودان للجميع)، فى معرض تعليق لها على ذات القصة الفائزة، الى ما أسمته ظاهرة التسيب فى النحو وعدم ضبط أدوات الترقيم وسوء استخدام الاقواس وتساءلت عن ماهية المعايير التى تتبناها لجنة جائزة الطيب صالح فى تقييم الأعمال المقدمة اليها مشيرة الى ان اللغة هى واحدة من الأدوات الأساسية التى ينبغى على الكاتب معرفتها و التمكن منها.
تم تناول القصة الفائزة بالنقد في منابر اخرى. ولعل الغالبية ممن تناولوها بالنقد قد توافقوا على أن الكتابة ربما لم تكن هى المجال الأنسب لصاحبة الجائزة الفائزة وإنه يتوجب على الشرطة والأجهزة العدلية التحفز منذ الآن لرصد (مجرمة خطيرة) هي الأستاذة صباح سنهوري التي حذرت على امتداد صفحة كاملة بذلت لنشر حوار معها أنها إن لم تكن كاتبة فستكون مجرمة خطيرة (الأحداث 14 ابريل 2009). وبما ان حلم الكتابة لم يتحقق لها فإن الخيار الثاني هو الأقرب للتحقق إذ لم تقدم لنا الكاتبة في حوارها الطويل أي خيار آخر.
ربما حان الوقت لمساءلة ناقدة لمانحي الجائزة والانتباه لضرورة وقف ما يمكن أن يصير عبثاً بإسم روائي كبير فى مقام الطيب صالح، كانت أداته الأكثر مضاء لتزيين صورة بلاده وتقديمها للانسانية جمعاء هي قدرته على الإبداع والكتابة!
علماء آخر الزمان!

من محاسن ثورة الاتصالات التى انتظمت العالم أن السودانيين المقيمين بالولايات المتحدة اصبح بوسعهم مشاهدة تلفزيون السودان داخل منازلهم فى المدن الامريكية المختلفة. ومن محاسن ثورة الاتصالات ايضا أنه أصبح بوسع هؤلاء المقيمين بالمهجر الامريكى تلقى اخبار الولايات المتحدة نفسها من تلفزيون السودان. ليس اخبار الولايات المتحدة العامة فحسب، بل وادق الاخبار واكثرها التصاقا بشئون السودانيين الامريكيين وبمقتضيات حياتهم اليومية. خذ عندك هذا المثال: انا شخصيا اقيم بمدينة منيابوليس بولاية منيسوتا ولدى حساب جارى فى ( سيتى بانك )، كما أن لدى كروت إئتمان مصرفى من سيتى بانك. الاهم من ذلك أننى عميل محترم لهذا البنك الامريكى العتيد الذى قام مشكورا بتمويل عملية شراء منزلى الذى اقيم فيه حاليا بضاحية بيرنزفيل. وهكذا ترى – أيها الاعز الاكرم – كيف ان أمر سيتى بانك كشخصية اعتبارية يهمنى لاقصى الحدود. ومع ذلك فقد شاءت ارادة الله الغالبة ان تفوتنى اخبار أهم التطورات المتعلقة بمصير هذا البنك فلم ادركها الا من تلفزيون السودان!

قبل أيام رأيت على شاشة التلفزيون السودانى رجلا ملتحيا، عرّفنا المذيع على اسمه مسبوقا بحرف الدال. قال الرجل: ان النظام الاقتصادى الغربى قد انهار، وان المؤسسات المالية الغربية ادركت مؤخرا قيمة النظام المصرفى الاسلامى وحكمته فأخذت تتجه اليه وتدرسه وتمحصه وتستكشف مزاياه. لم استطع الثبات على مقعدى فهتفت: الله اكبر. ثم أضاف الرجل: إن سيتى بانك، اكبر بنوك امريكا، قرر اخيرا ان يتبع النظم المصرفية الاسلامية بعد أن عكف على دراستها واستبان جدواها. أدهشنى الخبر. اذ ان مراسلات سيتى بانك تملأ صناديق بريدنا كل يوم، فهو يراسلنا بمناسبة وبدون مناسبة، يوافى عملاءه بأنباء اهون التطورات والتغيرات فى نظمه واجراءاته وتعاقداته. ولكن البنك مقطوع الطارى لم يخبرنا قط أنه قرر أن يتحول بنظمه وعملياته الى النظام الاسلامى. ياله من بنك لئيم. يُخبرنا بالتوافه ويُخفى عنا عظائم الامور. ولكن الله اعزنا واكرمنا بتلفزيون السودان الذى لا تفوت علماؤه الاجلاء شاردة ولا واردة الا أحصوها. ( تصور كيف يكون الحال، لو ما كنت سودانى .. وتلفزيون السودان ما تلفزيونى )؟!
الطورية .. والعسكرية!

خلافا للنسخة الورقية من (الاحداث)، التى اكتفت – لاعتبارات قدّرتها - بجزء يسير من المادة المكتوبة فلم تنشرها كاملة، حملت منابر الشبكة الدولية التعليق الكامل والمطول الذى كنت قد سطرته تعقيبا على مذكرة الاستاذ عمار محمد آدم الموجهة الى رئيس وزراء تركيا يطلب اعتذارا وتعويضا عن عدوان جيش محمد على باشا على مملكة الشايقية فى بدايات القرن التاسع عشر. وقد تمحور تعليقى حول حقيقة أن قبيلة الشايقية وأن كانت قد تضررت من الغزو الاجنبى ضررا جزئيا فإن التاريخ المرصود يؤكد انها جنت من ورائه فى ذات الوقت مكاسب مقدرة. وقد غمرت بريدى الالكترونى رسائل كثر بعث بها عدد من (السناجك) عبروا فيها عن استنكارهم الشديد لمزاعمى، وقد بلغت بعض هذه الرسائل حد اتهامى بتأجيج النزعات العنصرية. وقد تلقيت نصحا من أخ كريم كتب: ( أن استعداء قبيلة يعد أبناءها من أكثر أهل السودان بروزا فى أصعدة الابداع بشتى ضروبه، سلوك لا يشبه الاذكياء من الكتاب الذين يفترض ان يتكتموا حتى على ميولهم وولاءاتهم الرياضية، ناهيك عن ان يبادروا باستعداء قبيلة فى حجم وقوة ونفوذ الشايقية ). وأنا أشكر الاخ الكريم على احسانه الظن بى إذ عدنى من الاذكياء (افضل ان احمل عبارته على المحمل الحسن، مع ان صياغته مفتوحة تحتمل الصاق أى من الصفتين بى: الذكاء أوالغباء). وأؤكد له ولكل الافاضل ممن بعث الي بالرسائل أن التطفيف من قدر قبيلة الشايقية ومبادرتها بالعداء لم يخطر لى ببال قط، وإنما قصدت الى ان اعالج، معالجة توخيت فيها الموضوعية قدر المستطاع، قضية تاريخية تحكمها حقائق ثابتة لا خلاف عليها. ثم اننى لا اعرف كيف يمكن لأى انسان ترعرع حتى شب عن الطوق فى مدينة كمدينة عطبرة أن يفكر، مجرد تفكير فى أن يمس من قبيلة الشايقية طرف جلبابها، الا ان يكون ضعيف العقل سقيم الوجدان عاطلا من كل احساس.
متفوقون بالجملة

أهلّ على السودان موسم (التفوق). اعرف ذلك من ظهور وتكاثر اعلانات التهنئة بنجاح الابناء والبنات فى الدراسة. باعتبارى ( متفوق ) سابق نشرت الصحف اسمى مرارا وتكرارا كمتفوق فى المراحل الابتدائيه والمتوسطة والثانوية والجامعية، وعند حصولى على شهادات الدراسات العليا. وذلك بالاضافة الى اخبار ترقياتى من درجة الى اخرى خلال سنى عملى بالخدمة المدنية، فإن لدى اعتراف اود ان ادلى به اليك - أيها العزيز الاكرم – وظنى بك انك كما هو العهد بيننا ستحفظ سرى فى قاع بئر سحيق. كل الاخبار التى نشرتها الصحف عن تفوقى كانت ملفقة ولا اساس لها من الصحة. أنا لم اتفوق قط فى حياتى الدراسية .. ولا مرة واحدة. ولم أتصدر قائمة أى ترقيات ترقيتها فى سنوات حياتى العملية موظفا فى الخدمة المدنية، وانما كان ترتيبى دائما فى الوسط او دون الوسط. نجحت بصعوبة بالغة فى امتحان النقل من المرحلة الابتدائية الى المرحلة المتوسطة، ولا اصدق حتى الان اننى اجتزت امتحان الدخول الى ثانوية عطبرة الحكومية. كان هدفى ان ادرس القانون بجامعة الخرطوم وحصلت على بوكسنغ مقداره مائتين واحدى عشر درجة، ولكن الحد الادنى المطلوب كان مائتين وثلاثة عشر، واضطررت بعد ذلك على مضض لقبول منحة من وزارة التعليم العالى للدراسة بالمغرب. وعندما بعثت بى الحكومة الى أوربا للتحضير لدرجة الماجستير كدت من كثرة التعب والخيبة أن اقطع دراستى واعود الى الخرطوم، ولكننى تماسكت خوفا من الفضيحة، واكملت البرنامج الدراسى وأنجزت الاطروحة بآخر نفس من روحى. ولكن فى كل خطوة من هذه الخطوات المنكودة نشرت الصحف اخبار نجاحاتى وحملت باقات التهانئ بالتفوقات الكبيرة. لم يكن للنشر وادعاءات التفوق والتهانئ علاقة بانجازات حقيقية، بل لها فقط علاقة بحقيقة انه كان لدى دائما بين أهلى او أصدقائى من هم فى موقع القدرة على نشر مثل هذا الاخبار. وكان هؤلاء يحسبون انهم يحسنون صنعا. كيف لا وهم يعطرون ارضنا وسماواتنا بالبهجة! وانظر اليوم الى الماضى فأشعر بالخجل. أكثر ما يخجلنى أننى كنت فى مراحلى الدراسية المختلفة أتلقى التهانئ والهدايا واتبختر، ثم اخرج الى الهواء الطلق فاذا المتفوقون الحقيقيون امامى فى الطرقات. وجها لوجه. عيونهم فى عيونى. هم يعرفون وانا اعرف. يا للبجاحة!

عندما انظر اليوم فى صفحات الصحف الى مساحات التهانئ وصورالمتفوقين، فاننى فى الغالب أتأمل الصور وامعن النظر فى الوجوه. ثم اخاطب كل واحد منهم: هل صحيح انك متفوق؟ أم انك نجحت وخلاص، وكل ما فى الأمر ان قريبك أوصديق والدك له صلات مكنته من نشر صورتك والادعاء بأنك متفوق؟!
ابان فاقان اوطو
ابان فاقان اوطو يشغل وظيفة القنصل بسفارة السودان بواشنطن. لا اعرفه ولم التقه فى حياتى. ولكننى اعرف عنه انه يجسد صورة من الصور السودانية الامريكية الأكثر إشراقا. ولأننا نكثر من الهجوم على المظاهر السلبية ونفرط فى انتقاد الشخصيات التى تتولى مهام الخدمه العامة المختلفة، فإن العدل يقتضى ان لا نتجاوز النماذج الايجابية فنمر عليها مرور الكرام. سحرتنى الروايات التى سمعتها من عدد كبير من الاخوة السودانيين الذين قادتهم الظروف للتعامل مع القنصلية السودانية بواشنطن لانجاز بعض معاملاتهم. قال لى البعض ممن تعرضوا هم او ذويهم لظروف ومواقف فرضت عليهم السفر المفاجئ كيف ان ابان عندما كانوا يعرضون عليه الظروف الانسانيه القاهرة التى يمرون بها كان يبقى فى مكتبه بعد ساعات العمل الرسمية او فى العطلات لانتظار جوازات سفرهم المرسلة بالبريد الخاص. ثم أنه كان يحمل جوازات سفرهم بنفسه الى مكاتب البريد الخاص ليضمن وصولها لاصحابها فى الوقت المقرر. واقسم لى اخرون ان الرجل دفع من جيبه الخاص بعض الرسوم المالية عندما نسوا ارفاقها مع مستنداتهم وبعث اليهم بايصالاتها!

ابان فاقان اوطو قنصلنا بواشنطن يقول لنا أن السودان بخير وعافية، وان بعض شاغلى الوظائف الرسمية يدركون تماما ان مهمة أجهزة الدولة هى خدمة الناس لا التعالى والتسلط والتمنظر والتلذذ باستخدام سلطات المنح والمنع!