حالة ذهنية.. حذفته الرقابة الامنية من النسخة الورقية
فائز السليك
حالة ذهنية.. مصطفى عثمان إسماعيل يعظ لم يكن الدكتور الشيخ حسن الترابي يعلم أن الأمور كلها ستنقلب ضد مبتغاه، ويبدو أن الزعيم كان يعد الأمر نزهة قصيرة، وسياحة فكرية جديدة حين قال للرئيس عمر البشير (اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب أنا الى السجن حبيساً)، وما درى أن السجن سيطول، وأنه سيكون أول الخاسرين، وأن الأمور لن تسير حسبما كان يبتعي، فكان هو أول الخاسرين في صراع السلطة والهوى والهوية، وقد عبر عن ذلك الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق دمبيور بسخريته المعهودة حين التقى بوفد من (المؤتمر الشعبي) وسألهم عن الترابي،وحينها كان الشيخ في سجنته الثالثة يعتمد على الأسودين/ الماء والتمر، فشكى أعضاء الحزب سوء الأحوال فقال قرنق ( نسمع أن الثورة تأكل بنيها لكن هي المرة الأولى التي نسمع فيها أن الثورة تأكل أبوها)، وحتى لفظ الثورة يظل مجازاً لأن كل من يصل الى السلطة يعلن أنه ثورة من أجل الشعب، والشعب لا يعرف شيئاً عن منقذه الجديد، أو الوصي القادم، أو المخلص الكبير، أو أي صفة من الصفات الكثيرة التي يحملها قادة الانقلابات في كل العالم. والشعب يكون طرفاً في المعادلة السياسية بقصد المناورة فقط، ولمحاولة اضفاء الشرعية على التحرك السياسي أو العسكري. وقبل بضعة أيام عاد لفظ الشعب الى الظهور في تصريحات قادة المؤتمر الوطني في حديث مستشار رئيس الجمهورية ومساعده في الحزب الحاكم الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل حين أعلن أن حزبه قرر رد السلطة للشعب، وقد صدرت تقارير صحفية في ذات السياق تقول (أدان د. مصطفى عثمان اسماعيل الإنقلابات العسكرية للوصول للسلطة ونصح الحركات الاسلامية في العالم بعدم الاقتداء بالحركة الاسلامية في السودان واللجوء لمثل تلك الانقلابات. وقال مصطفى في ختام أعمال جلسات عمل المؤتمر الرابع للوسطية، الذي انعقد في العاصمة الأردنية عمان تحت عنوان «نحو مشروع نهضوي اسلامي» -بحضور الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي- «الآن نريد أن نرد السلطة إلى الشعب، وله أن يعيدنا إلى السلطة انتخابيا، إن أراد ذلك». واعتبر اسماعيل الإنقلابات العسكرية محرمات، واضاف أن الحركة الإسلامية في السودان تعاطت معها مضطرة، مقارنا ما فعلته الحركة الإسلامية السودانية بما اضطرت إليه الحركة الإسلامية الجزائرية حين تم الغاء نتائج المرحلة الأولى من الإنتخابات العامة سنة 1992م. ومع رفضنا لمبررات الدكتور مصطفى والتي خرج لها الدكتور الترابي بفقه (الضرورة)، ونظر لها عبر سياسات (التمكين) الا أننا نتساءل حول امكانية استبشارنا خيراً بامكانية (رد السلطة الى الشعب)، وهو اعتراف صريح بأن السلطة اغتصبت ذات يوم من الشعب، فجاء الوقت لرد الحق المغتصب الى أهله ، وهم الشعب، وهل أيضاً سيرضى رفاق مصطفى بنتائج اللعبة الديمقراطية؟. وللعبة قوانينها وأجواؤها الملائمة لتتم وفق جو معافى وشروط متكافئة، وهو ما لا يتفاءل كثيرون بحدوثه حتى اللحظة حيث يرفض أهل السلطة مجرد اقرار قوانين ديمقراطية تتيح حرية التعبير والنشر والتنظيم والتظاهر والتجمهر والتعبير، وهو ما يشير الى أن تياراً قابضاً داخل دوائر الحزب الحاكم يرفض التحول الديمقراطي، ولا يقر بالآخرين دعنا عن حقوقهم، وهو التيار البارز، وصاحب الصوت القوي حتى اللحظة، وهو ما يحتاج الى عمل كبير من قبل التيار الديمقراطي، وهو تيار واقعي وبراغماتي يرى أن استمراره في الحياة السياسية صار رهيناً بمشاركة الآخرين، وبحقهم في الوطن الكبير، وهو تيار يجب أن ينمو وأن يجد الدعم بعيداً عن التطرف والمزايدات، وهو واقع تفرضه التغيرات والتطورات. ان مسألة الاجماع الوطني هي حاجة وليست تكتيكاً، لأنّ البلاد في مفترق طرق بين أن نكون أو لا نكون، ولكي نكون لابد من اعترف كل منا بالآخر، وهذا الاعتراف لكي يتحول الى برامج والى واقع يحتاج الى جو صحي، والجو الصحي هو بسط الحريات، والايمان بالديمقراطية، وتؤكد مصادر عليمة ببواطن الأمور أن تياراً ديمقراطياً وبراغماتياً داخل الحزب الكبير يعمل على تكريس هذا الفهم لأن كل الطرق سدت ، ولم يبق أمامهم سوى طريق الانفتاح ومشاركة الآخرين. ورغم مضي عشرين عاماً يظل البعض بعيدين كل البعد عن واقع السياسة، وعن دينماكية المجتمع والحراك اليومي، فبعض قيادات الوطني لا تزال تعيش حالة الانقلاب، فهي حالة ذهنية تصور لمن تنتابه هذه الحالة؛ أنها هي المنقذة، وهي الوصية على الشعب الذي يبشرنا الدكتور مصطفى بقرب تسليمه لسلطته المغتصبة منذ عشرين عاماً، ولا تزال تمارس الطغيان والاستبداد تارةً باسم الشرعية الثورية، وتارةً باسم الدين وتارات أخر باسم السيادة والكرامة ، فهم سيظلون مستبدين، و عن الاستبداد يقول العالم عبد الرحم الكوكبي في سفره طبائع الاستبداد (وإنى أرى أن المتكلم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تعريف وتشخيص " ماهو الاستبداد ؟ ماسببه؟ ما سيره؟ ما إنذاره ؟ ما دواؤه؟ و كل موضوع من ذلك يتحمل تفصيلات كثيرة وينطوى على مباحث شتى من أمهاتها : ماهي طبائع الاستبداد ؟ لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ لماذا يستولى الجبن على رعية المستبد؟ ما تأثير الاستبداد على الدين ؟على العلم، على المجد، على المال، على الخوف. على الترقي، على التربية، على العمران من هم أعوان المستبد؟ هل يتحمل الاستبداد؟ كيف يكون التخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغى استبدال الاستبداد؟. وأخطر أنواع الاستبداد يكون ذو صلة بالدين، وهو ما لا يريد الدكتور مصطفى تكراره في السودان بعد تجربة خاسرة، وهنا يرى الكواكبي (تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين فى التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد، فهما أخوان، أبوهما التغلب، و أمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان، بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان، أحدهما: في مملكة الأجسام، والآخر: في عالم القلوب) والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين، والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل، ومخطئون في حق الاقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كماهم مخطئون إذا نظروا الى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي، وليس من العذر شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القرآن لخفائها علينا في طي بلاغته، و وراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين ). وهو شأن الحركة الاسلامية في السودان، والتي استعانت بالقوة، ومارست الاستبداد وفق مشروعها الحضاري الأكذوبة، وهو مشروع كانت ثماره مرةً، وكادت أن تنسف كل البلاد، ولا يزال الخطر ماثل بعد أن ولدت الجهوية والقبلية فثارت الأطراف ضد المركز، ورفض الهامش كل أنواع الهيمنة. ونتمنى أن يكون اسماعيل جاداً في طرحه، وصادقاً في تحذيره للحركات الاسلامية الأخرى من تكرار تجربة انقاذ السودان، لكن قبل أن يعظ الآخرين ويحذرهم نتوقع أن يقنع رفاقه هنا بجدوى التحول الديمقراطي، وبضرورة طي صفحات الانقلابات واستخدام وسيلة العنف من أجل السلطة، وهي سلطة كانت خصماً على الحركة الاسلامية باعتراف عناصرها، وهي نفرت منهم الناس، وقسمتهم، وجعلت ثورتهم تأكل أبوها الروحي، وهو درس قد فهمه البعض أما الذين لم يفهمونه بعد فنخشى أن ييهدوا المعبد فوق رؤسهم، وفوق رؤوس الآخرين، على شاكلة (ترق كل الدماء).