الخيار الثالث لماذا وكيف ؟؟؟؟(نزعته الرقابة الامنية)
مكي علي بلايل
بحث عن بؤرة ضوء في نفق أزمة الجنائية الدوليةمكي علي بلايلكان توقعاً يقرب من اليقين أن تصدر محكمة الجنايات الدولية قرارها حول مذكرة مدعيها العام لويس مورينو أوكامبو بتأييد طلب إعتقال رئيس الجمهورية بتهم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وهذا ماحدث يوم الأربعاء المنصرم الموافق الرابع من مارس الجارى . ومن ناحيتها لم تخرج ردود الفعل على القرار في كثير عما توقعه أغلب المراقبين. وقد برز في إطار ردود الفعل الصارخة على قرار المحكمة خطان متعارضان بشكل كامل يمثلهما موقف الحكومة والقوى المصطفة معها من ناحية وموقف حركات دارفور الرافضة لأبوجا سيما العدل والمساواة وحركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور من الناحية المقابلة ؛ وموقف الحكومة ومن معها كما هو معلن هو رفض التعامل مع المحكمة من حيث المبدأ وكذا رفض التهم وإعتبارها مجرد مؤامرة من القوى المعادية للسودان الطامعة في خيراته وهو موقف يتسق لحد كبير مع اعتبار الحكومة لأزمة دارفور كلها صناعة غربية لا أكثر ولا أقل.وعلى النقيض من ذلك يأتي موقف الحركات المسلحة التي تصارع الحكومة والتي اعتبرت القرار في تصريحات قادتها إنتصاراً تاريخياً لأهل دارفور وأبدى بعضها وتحديداً العدل والمساواة الاستعداد للتعاون في إنفاذ أمر الأعتقال كما جاء على لسان دكتور خليل إبراهيم. ومهما يكن من شيء وخلافاً لتقليل البعض من شأنه مكابرة فإن قرار المحكمة بإعتقال الرئيس يمثل نقلة نوعية لأزمة دارفور التي تأبي أن تخرج من طور إلا لتدخل في طور أكثر تعقيداً . وليس بمستغرب أن تأخذ ردود الفعل طابعاً عاطفياً على النحو الذي شهدناه في الأيام التي تلت القرار من معسكري الرفض والتأييد معاً ولكن ينبغي أن لاتزيد جرعة العاطفية بخطابها الهتافي عن الحد فتصرفنا عن الموضوعية في التعامل مع الازمة والتي بدونها لن نهتدى لجادة الخروج منها . وأنه لمن الغلو والنأى عن الموضوعية أن يتبنى البعض إزاء المواقف من الأزمة منطق من ليس معنا فهو بالضرورة ضدنا فالأمر أشد تعقيداً من أن يتحمل هذا الإبتسار والتسطيح . فهنا تتشابك وتتقاطع أمور غاية في الحساسية تتصل بقيم العدالة ومطلوبات الاستقرار والأمن للبلاد عامة ودارفور خاصة ، حاملة في ثناياها ابعاداً دولية ووطنية وإثنية بل حتى شخصية؛ ومشكلة بهذا التعقيد لايجدى في التعامل معها التسطيح وخطاب المنلوج بترديد مسلمات هذا الطرف أو ذاك وإنما يتطلب الحل جهد وطني وصولاً لمشروع تسوية يتحقق له أكبر قدر ممكن من التأييد من خلال التوفيق بين متناقضات عديدة بما يشبه الجراحة الدقيقة عسى ولعل . وإن مشروعاً يتحقق له شبه الإجماع الوطني لأن الإجماع في حكم المستحيل لايمكن أن يتحقق بإسلوب الحكومة بالدعوة للإصطفاف معها في موقفها بحيثياته فإصطفافاً كهذا هو بالضرورة نقيض للطرف الآخر في النزاع متمثلاً في الحركات المسلحة ومؤيديها ومن العبث الحديث عن شبه الإجماع بمعزل عن ذاك الطرف . إن الخيار الثالث هو بالضرورة قوام بين موقف الحكومة الذي يعتبر أزمة دارفور وتداعياتها بما فيها إتهامات الجنائية مجرد مؤامرة غربية ، وموقف الحركات المعول بأكثر مما يلزم على الخارج والمندفع نحو خيار الجنائية الدولية . وهذا الخيار الثالث هو ما نرجو تبيين ضروراته وملامحه وفرص نجاحه في السطور التالية ؛ هذا الخيار كما نراه ينبني على حقائق وإعتبارات أساسية من أهمها:- أولاً : إن جرائم فظيعة وإنتهاكات مريعة قد وقعت بالفعل في دارفور وإن الحكومة وأجهزتها مسئولة عن القسط الأكبر من هذه الجرائم والإنتهاكات . وهذه الحقيقة لايجدى معها الإنكار وإختزال الأمر في مؤامرة من أعداء السودان والبحث عن حشد التأييد بهذا المنطق الذي لايعدو أن يكون مايسميه البعض هروباً للأمام . ثانياً : إن سلاماً حقيقياً لايمكن بلوغه بتجاوز هذه الجرائم بالإنكار أو بمحاكمات شكلية غير مقنعة فالعدالة في الأصل تتناغم مع السلام ولاتتعارض معه كما يحاول البعض أن يثبت. ثالثاً : إذا كانت الجرائم والإنتهاكات حقيقة والمحاكمات العادلة ضرورة للسلام ولقيمة العدالة ذاتها ؛ فلا سبيل لمحاكمات عادلة ومقنعه بطرح الحكومة من خلال القضاء السوداني مهما تحدثت الحكومة عن استقلاله وقدرته . ذلك أن أمر المحاكمات ليس فقط في يد الجهاز القضائي وإنما هو فوق ذلك أمر التشريعات ومدى كفايتها للجرائم والنيابة العامة التي تتولى الإدعاء ومدى إستقلاليتها وحيدتها وأجهزة اكتشاف وضبط الجريمة والتحرى الأولى حولها من الشرطة والامن ودرجة استقلالها . وهناك من يرى أن القوانين الوطنية وإن كانت تجرم كثير من الانتهاكات التي وقعت في دارفور فليس فيها ما يتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية . وأهم من ذلك فإن الكثيرين ومنهم كاتب المقال يرون أن المنظومة التي تشكل النظام العدلي في السودان ممثلة في القضاء والنيابة والأجهزة الشرطية والأمنية واقعة بشدة تحت التأثير الحكومي. وحتى اذا سلمنا جدلاً بصحة زعم الحكومة باستقلالية هذه المنظومة فإن ذلك لن يقنع أبداً الحركات المسلحة والمجتمع الدولي. رابعاً : بالرغم من أهمية العدالة وضرورتها فإن القول بأن تدخل الغرب في أزمة دارفور عامة يأتي لوجه العدالة وحدها بدون مآرب أخرى لايعدو أن يكون إما سذاجة أو عدم إكتراث بخطورة الأجندات الخارجية أو تواطؤ معها. إننا بالطبع لانوافق على منطق الحكومة القائل بأن الأزمة في الأصل مؤامرة غرببة. فقد كانت هناك أسباب موضوعية اوقدت شرارتها وجاءت سياسات الحكومة الخرقاء لتزيد أوار نارها وقد دخلت فيها الأجندة الخارجية على الأرجح لأهداف لاعلاقة لها بمصلحة دارفور وهذا طبيعي في لعبة الأمم . خامساً : فإن الانحياز لقيمة العدالة المجردة يقتضي محاربة مبدأ الكيل بمكيالين وهذا ما تتورط فيه للأسف المؤسسات السياسية والعدلية الدولية بما لا يحتاج لبيان؛ وإذا كان لزاماً العمل لإصلاح المؤسسات الدولية لوجه العدالة؛ فمن المناسب أن نتحرى هذه العدالة في بدائل أخرى ما إستطعنا لذلك سبيلاً. ومرة أخرى نقول أننا لا نتبني موقف الحكومة وأنصارها التي تقول لماذا لا نحاكم جرائم غزة والعراق وغيرها كما لو كانت الجرائم هناك تبرر الجرائم هنا . ولكن لو وجد بديل يحقق العدالة بصورة مرضية فذلك أفضل وادعى لاعلاء قيمتها من الخضوع لمؤسسات المعايير المزدوجة. سادساً : إن الإصرار على خيار محكمة الجنايات الدولية مع وجود إمكانية لبديل يحقق العدالة المرضية مخاطرة غير مبررة قد تنزلق بالبلاد لأتون الفوضي الشاملة. فإنصياع الحكومة لقرار المحكمة خاصة توقيف الرئيس إحتمال غير وارد والمطالبة بذلك عدم واقعية . وعليه فإن الاصرار على خيار الجنائية الدولية يعني الدعوة لمواجهة حتمية مع المجتمع الدولي. وفي ظل سيولة الأوضاع وهشاشتها وتعقيداتها فإن الدعوة لمثل هذه المواجهة هي على الأرجح استدعاء للإنهيار والفوضي . تلك الاعتبارات التي نراها صحيحة ولانمانع أن يراها البعض غير ذلك تشكل في مجملها إجابة على السؤال لماذا الخيار الثالث ؟ . فماهي ملامح هذا الخيار ؟ إن هذا الخيار ليس جديداً بالنسبة لنا إذ قد طرحنا ملامحه الأساسية في رؤية حزب العدالة لحل أزمة دارفور وتداعياتها. وقد خرج الحزب بتلك الرؤية في أغسطس 2008م بعيد تقديم المدعى العام لمحكمة الجنايات الدولية مذكرة طلب توقيف الرئيس ونشرتها صحيفة رأي الشعب. وما جاء في تلك الرؤية هو ما نعرضه اليوم بشيء من التفصيل. وفي هذا الإطار نرى أن موضوع المحاكمات في جرائم دارفور يجب أن يكون جزءاً من مشروع التسوية الشاملة للأزمة. وأهم مفردات هذا المشروع هو القبول بالمطالب الأساسية التي ترفعها الحركات المسلحة والتي لا نرى أية صعوبة للإتفاق حولها بعد تطور موقف الحكومة وإستعدادها لقبول التعويضات الفردية والجماعية. ومن خلال المتابعة لا نري أية مسألة حقيقة حولها خلاف لجهة المطالب سوى الإقليم الواحد. والخلاف حول هذا المطلب لحد تعطيل التوصل لإتفاق غير مبرر في تقديرنا وندعو الحكومة لتجاوزه. إن موقف الحكومة حول هذا الأمر يستند لحيثيات يمكن تصنيفها في خانة التوهم. وقطعاً فإن الحكومة لا ترفض الإقليم الواحد بسبب التكاليف الإدارية للحكم بدليل أنها توافق على زيادة ولايات دارفور . والحديث عن أن الإقليم الواحد مقدمة للمطالبة بحق تقرير المصير وتمهيد للإنفصال لايسنده المنطق المجرد ولا تجربة واقعنا. إن الجنوب لم يطالب بحق تقرير المصير وهو إقليم واحد بعد أديس أبابا وإنما طالب به وهو عشر ولايات في ظل الإنقاذ دون أن يحول تعدد الولايات دون هذه المطالبة . ودارفور تعامل اليوم في كل المحافل الدولية والإقليمية كوحدة واحدة وليست كولايات . وإذا أرادت الحركات طرح تقرير المصير لما حال تعدد الولايات بينها وبين ذلك المطلب. إن السبب الوحيد وراء موقف الحكومة وهي لا تجرؤ على البوح به هو تحفظها أن يكون الإقليم الواحد على حساب القبائل الحليفة لها . ونستطيع أن نتفهم هذا التخوف ولكن التحوط له ممكن إذ أن الإقليم الواحد لن ينشأ إعتباطاً وإنما بموجب تشريعات تفصل الصلاحيات بينه وبين الولايات وكذلك كيفية إدارته بما يمنع أي تغول محتمل . وفي إطار مشروع التسوية يتم الإتفاق على تدابير للمحاكمات على أن تضمن هذه التدابير إستقلالية وحيدة القضاة ومن يتولون الإدعاء من سودانيين وأفارقة وعرب وتطبق فيها قوانين يتفق عليها وتكون نتائج تحقيقات اللجان الدولية والوطنية ضمن الوثائق التي يعتمد عليها وتطال المحاكمات كل من توجد ضده بينات مبدئية دون حصانة لأحد. وبالطبع فإن حمل الأطراف للإتفاق على مشروع التسوية شامل يتطلب جهداً مضنياً ومخلصاً. ولهذه الغاية لابد من قيام لجنة وطنية من قيادات سياسية حزبية ومستقلة تتوفر فيها الحيدة اللازمة لتلعب دور الوسيط والمسهل الوطني . وندعو هنا أن تأخذ هيئة جمع الصف الوطني زمام المبادرة بعيداً عن مظلة الحكومة. فأية مبادرة تقوم تحت ظل الحكومة لن تجد أكثر من حظ ملتقى كنانة مهما كان الطرح النظرى فيها سليماً . إن المهمة الأساسية للجنة الوساطة والتسهيل الوطنية إجراء حوار شامل بين القوى السياسية والشعبية للوصول لمشروع التسوية الذي لابد أن يغطى المطالب والمحاكمات والترتيبات الأمنية وتصحيح الأوضاع على الأرض. وعند التوصل لهذا المشروع الذي يمثل الإرادة الوطنية يطرح على أطراف النزاع ويتم الضغط عليها لقبولها . وأي طرف يرفض ذلك يواجه بالعزلة ويحمل مسئولية إستمرار الأزمة . ومن البديهى أن تتم هذه التسوية تحت إشراف وبضمانات الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي . وما من شك أن تحقيق شبه الإجماع الوطنى على تسوية شاملة سيخلف واقعاً سياسياً يصعب تماماً على المجتمع الدولي وعلى أية قوى ذات أجندة تجاوزه . وهذا هو الطريق الوحيد الذى نراه مواتياً في هذا الظرف للخروج من نفق الأزمة بأقل الخسائر .