الاستاذ محمد محمود:
بروز الحركات الجهوية أمر طبيعي في ظل المواجهة بين المركز والهامش
طبيعة الدولة السودانية وهيمنة الهوية السائدة يشكلان أساس الأزمة
لا بد من إعادة صياغة الثقافة السودانية لتصبح ثقافة كل السودانيين
تقرير المصير هو انتصار الحركة الشعبية الأساسي الذي حققته في نيفاشا
في بلادنا كل مواطن ، شاء أم أبى ، "مسيس"
حوار: صلاح شعيب
ممنوع من النشر بامر الرقيب الامني
تخرج محمد محمود من كلية الآداب بجامعة الخرطوم حيث درس الأدب الإنجليزي والفلسفة وذهب بعدها مبتعثا إلى المملكة المتحدة حيث حصل على الدكتوراة من معهد الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد. عاد إلي السودان في بداية الثمانينات وعمل محاضرا بكلية الآداب. تركز همه البحثي منذ بداية الثمانينات في مجال الدراسات الإسلامية وخاصة من زاوية إعمال مناهج النظر النقدي في دراسة المادة الإسلامية. وفي الثمانينات أصدر ستة أعداد من كراسة (اليقظة) التي عنيت بقضايا مثل نقد الدولة الإسلامية وإشكاليات النص القرآني. عقب إنقلاب يونيو 1989 غادر السودان ومالبث أن انضم لهيئة التدريس في معهد الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد وبعدها قام بالتدريس في قسم الأديان المقارنة بجامعة تفتز في بوستون التي قدم استقالته منها ليعود للملكة المتحدة حيث يقيم الآن. في عام 2007 صدرت دراسته عن فكر الأستاذ محمود محمد طه (Quest for Divinity) عن دار جامعة سيراكيوز، وهي ثمرة عمل استغرق نحو العشرين عاما وتتناول فكر طه تناولا نقديا من ناحية جذوره وأطروحاته وما يعنيه في الإطار الواسع للمواجهة بين الإسلام والحداثة. يتركز عمله البحثي الآن على إشكاليات القرآن. المنتدى الفكري إلتقى بالأستاذ محمد محمود وكان هذا نص الحوار الذي رفضت الرقابة الأمنية نشره بصحيفة الأحداث:
كيف ترى المشاكل التي تعاني منها البلد؟
أولا دعني أقول إن القضايا التي يثيرها استطلاع (الأحداث) قضايا هامة وشائكة ولقد فعلت (الأحداث) خيرا بإثارتها إذ أننا أحوج ما نكون للتفكير فيها ، خاصة بعد عشرين عاما من المعاناة في ظل استبداد نظام البشير وجرائمه.
مشاكلنا كبلد من أقل البلاد نموا لا تختلف عن مشاكل الكثير من بلاد العالم الثالث : الاستبداد السياسي والفساد الذي يلازمه ، ضعف البنية الديمقراطية ، الحروبات الأهلية ، الهوة الضخمة بين المدينة والريف وتهميش غالبية الأقاليم والسكان ، تدهور إنتاجية القطاع الزراعي وإنتاجية القطاع الصناعي ، ارتفاع معدلات الفقر والجوع (والتي تصل إلى خمسين في المائة في الشمال وتسعين في المائة في الجنوب) ، التفرقة ضد النساء ، تردي الخدمات الصحية وانتشار الأمراض (حيث قتلت الملاريا مثلا 44 ألف مواطن في عـام 2002 أغلبهم من الأطفـال وما تزال تحصدهم) ، نسبة عالية من الأمية (ما بين الخمسين والأربعين في المائة) ، مستوى متدن من التعليم على كل المستويات، انحطاط الخدمات العامة ، تلوث البيئة وانحطاطها ، وغيرها من كوارث الإنسان ، بالإضافة لمشاكل متعلقة بـ " الحالة السودانية " مثل الاستبداد الديني والتفرقة ضد غير المسلمين ..
هل ترى أن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية ما دعا النخب المتعلمة إلى الفشل في إنجاز مشروع الدولة السودانية؟
من الواضح أننا نعيش في أزمة عميقة على كل المستويات، وهي أزمة لعبت النخبة السياسية الوطنية دورا أساسيا في خلقها وتعميقها ، خاصة بعد إنقلاب الإسلاميين في يونيو 1989 . والبعدان المتداخلان اللذان يشكلان أساس الأزمة هما بعد طبيعة الدولة السودانية وبعد هيمنة الهوية السائدة . كما نعلم أن الدولة التي كرسها الاستعمار الثنائي كانت دولة إدارة مركزية نتج عنها أن البلد انقسم لمركز وهامش ، وبذا أصبح الشمال (وهو بوابة البلد على مصر) والوسط (وهو مركز الثقل الاقتصادي بحكم نشوء مشروع الجزيرة) يشكلان المركز بينما أضحى باقي البلد ، وخاصة الجنوب ، هامشا . هذا الامتياز الذي ناله الشمال والوسط مالبث أن تحول لإمتياز على مستوى الخدمات الأساسية وخاصة التعليم . وعندما تحقق الاستقلال فإن متعلمي الشمال والوسط هم الذين ورثوا دولة الاستعمار وأصبحوا النخبة الحاكمة الجديدة . وهذه النخبة ، بحكم تكوينها الثقافي ، نخبة ذات انتماء إسلامي وعروبي وشعورها بالانتماء لجذورها الإفريقية ضعيف . وثمة واقع موضوعي ساعد هذه النخبة ودعم موقفها ، إذ أن الثقافة الإسلامية العروبية أو ما نسميه عادة بثقافة الشمال هي في واقع الأمر الثقافة السائدة . إلا أن هناك فرقا كبيرا بين أن تصبح ثقافة ما ثقافة سائدة ، وفي هذه الحالة فإننا غالبا ما نتحدث عن عملية ذات طبيعة طوعية ، وبين أن تصبح ثقافة ما ثقافة مهيمنة ، وفي هذه الحالة فإننا غالبا ما نتحدث عن عملية ذات طبيعة قهرية . والدولة السودانية اليوم ، خاصة في ظل النظام الحالي ، تتعامل بمنطق المركز والهامش الذي يجب أن يخضع لإرادة المركز وبمنطق الثقافة الحصرية التي يجب أن تهيمن على باقي الثقافات وتعمل على محوها (وخاصة من خلال أسلمة التعليم والمجتمع) . وهكذا وبعد نيف وخمسين سنة من الاستقلال ما زلنا نجد أنفسنا غارقين في مأزق الدولة من ناحية ومأزق هيمنة الهوية السائدة من ناحية أخرى .
ولكن كيف يمكننا الخروج من هذه الأزمات؟
من الواضح أن الخروج من أزمتنا يحتاج لفعلين جذريين : تفكيك الدولة وتغيير طبيعتها لتصبح دولة كل السودان بدلا من دولة المركز ، ومن ناحية أخرى إعادة صياغة الثقافة السودانية لتصبح ثقافة كل السودانيين . وفيما يتعلق بالثقافة فإننا نجد الآن أن اللغة العربية قد أضحت فعليا هي اللغة القومية لكل السودان بما في ذلك الجنوب . وبذا فإن التحدي الماثل هو : ماذا نفعل بهذه اللغة القومية ؟ هل نتركها لتصبح مطية لفرض هيمنة ذلك التجلي من ثقافة التراث العربي الإسلامي الذي يريد بعثه حملة لواء شعار "الإسلام هو الحل" ، أم هل نكافح لتصبح هذه اللغة وعاء لثقافة جديدة تعبر عن قيم عصرنا ومعارف عصرنا ؟
الانتخابات القادمة في فبراير 2010 ، هل تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العمل السياسي الحكومي والمعارض، خصوصا إذا دخلت قوى المعارضة في تحالف ضد المؤتمر الوطني؟
الانتخابات القادمة هي ترتيب سياسي بين نظام البشير والحركة الشعبية وكلاهما يستمد "شرعيته" من فوهة البندقية . إن كان نظام البشير والحركة الإسلامية التي تسنده يمثلان أزمة السياسة في الشمال فإن الحركة الشعبية تمثل أزمة السياسة في الجنوب . وإن كانت الحركة الإسلامية امتدادا لعنف المهدية فإن الحركة الشعبية امتداد لعنف الأنيانيا . لقد كان عنف الأنيانيا على حساب الغالبية الساحقة من مواطني الجنوب الذين لم يستشرهم قادة التمرد العسكري ووجدوا أنفسهم مشردين في دول الجوار وفي بلدهم وفقد جيل كامل فرصة التعليم . وانتهى المطاف بالأنيانيا لتصبح حليفا لنظام النميري . وإذ نفس الحال يتكرر بقيادة جون قرنق والحركة الشعبية لينتهي الأمر بالحركة الشعبية شريكا في أكثر الأنظمة استبدادا وبشاعة وتقتيلا لأهل الجنوب وأهل دارفور وباقي أهل السودان . للأسف لم تستطع الحركة الشعبية التمييز بين هدف إيقاف الحرب والمشاركة في النظام . لم تستطع الحركة الشعبية أن تدرك أن الأساس الحقيقي لسودان جديد هو سلام حقيقي يتيح إمكانية إرساء ديمقراطية حقيقية وأن الشرط الأولي هو ذهاب النظام الحالي وليس تقويته بالتحالف معه . لقد كان من الممكن للحركة الشعبية أن توقع اتفاق إيقاف الحرب وأن تظل في نفس الوقت في المعارضة وأن تفرض وجود ترتيبات خاصة تقوم بها إدارة فنية مؤقتة لضمان مصالح الإقليم الجنوبي في إجراءات تقسيم الثروة . ورغم أن الحركة الشعبية رفعت شعار السودان الجديد (وهو شعار نحن في أمسّ الحاجة له) إلا أنها أخطأت خطأ فادحا يوم قررت أن تصبح جزءا من نظام البشير .
الانتخابات القادمة انتخابات يجب أن يقاطعها المواطنون لأنها ستزيف إرادة الشعب . لا يمكن أن تقوم انتخابات نزيهة وشفافة في ظل النظام الحالي . إن الشعب السوداني لم ير تحت ظل هذا النظام العسكري أو ظل النظامين العسكريين قبله أية انتخابات عكست إرادته . إن الشرط الأولي هو قيام حكومة انتقالية مستقلة تشرف على إجراء الانتخابات . وحركة المقاطعة يجب أن تكون حركة مواطنين ، وهي حركة لابد لها من أن تتجاوز الأحزاب وإن كان نجاحها يستلزم إقناع جماهير الأحزاب لتنضم لها . هذه الانتخابات وفي ظل الظروف الراهنة ستكون أكبر تزييف لإرادة الشعب وستجعل نظاما ظل فاقدا للشرعية منذ عشرين عاما يدعي تمثيله للشعب ...
الإستفتاء على تقرير المصير: إلى أي مدى يمكنك التفاؤل بنتيجته فيما خص وحدة السودان، وإذا قدر للجنوب الإنفصال هل تتوقع أن تموت فكرة (السودان الجديد) التي دعا إليها الزعيم السوداني الراحل جون قرنق؟
تقرير المصير هو انتصار الحركة الشعبية الأساسي الذي حققته في نيفاشا ، وإن حققته في ظل كل الظروف الموضوعية التي من الممكن أن تؤدي لانفصال الجنوب . لا شك أن خيار الوحدة لا يمكن أن يكون جاذبا تحت ظل نظام البشير ، ومن الطبيعي أن يميل أغلب الجنوبيين لفك ارتباطهم بالشمال الذي لم يشهدوا في تاريخ علاقتهم به سوى التقتيل والتمييز العنصري والديني والإدقاع . إن الشعوب تمر في تاريخها بأزمات حادة وعميقة ونحن نمر الآن بأعمق وأخطر أزمة في تاريخنا المعاصر . رغم اقتناعي بحق الجنوبيين في الانفصال لو اختاروا ذلك ، إلا أنني أتمنى أن يفكر هذا الجيل في الأجيال القادمة ويغلّب مصلحة المستقبل . إن مصلحة الأجيال القادمة في تقديري هي في الوحدة وفي الكفاح من أجل إرساء ديمقراطية حقيقية ومساواة تامة بين المواطنين تنتفي فيها كل أشكال التمييز بسبب الدين أو الجنس أو العرق . بناء هذا السودان عملية يومية ودؤوبة يشارك فيها كل مواطن ومواطنة وكل صغير وكبير وتبدأ الآن حتى في ظل قهر النظام الحالي ولا تتوقف . وهي عملية سلمية سلاحها الوعي وترفض العنف بكل أشكاله . وأحد أهم الواجبات التي لابد من تحقيقها الآن هو قيام تكوينات شعبية تجمع الشماليين والجنوبيين بهدف خلق ثقافة وحدة وديمقراطية حقيقية ، وخاصة وسط الشباب .
ما هي تصوراتكم لحل أزمة دارفور، وكيف يمكن الوصول إلى سلام دائم؟
بروز الحركات الجهوية أمر طبيعي في ظل المواجهة بين المركز والهامش وأصوات الحركات الجهوية أصوات هامة وضرورية وصحية وخاصة وأن الأحزاب الكبيرة لم تعد تعبر تعبيرا حقيقيا عن هموم الريف والمهمشين والمسحوقين . إلا أن الحركات الجهوية تتحول لحركات ضارة وغير صحية عندما تلجأ للعنف ، وأكبر ضرر تحدثه الحركات المسلحة هو الضرر الذي يقع على المواطنين العاديين في الأقاليم التي ينفجر فيها صراع مسلح . إن خيار العنف وحمل السلاح هو خيار سياسي بالدرجة الأولى وهو خيار تتخذه نخبة سياسية-عسكرية وتفرضه على مواطنيها كأمر واقع . هذا هو ما حدث في الجنوب وما يحدث الآن في دارفور .. هذا لا يعني أننا لا ندين عنف المركز فهو العنف الأصيل الذي ولّد كل أشكال العنف الأخرى . إلا أن عنف المركز لا يبرر الدخول في دائرة عنف يكون ثمنها موت المئات من الآلاف وتشريد الملايين (حسب التقديرات العامة فإننا قد فقدنا نحو 2 مليون مواطن في الحرب بين الجنوب والشمال وأننا قد فقدنا حتى الآن نحو 300 ألف مواطن في حرب دارفور) . إن الكفاح من أجل المطالب المشروعة للأقاليم المهمشة هو في صلب الكفاح الديمقراطي ولا ينفصل عنه . وهو كفاح لابد أن يكون سلميا ولابد أن يكون متلاحما مع الكفاح على مستوى كل السودان لاستعادة الديمقراطية وترسيخها .
المثقف سوداني: ماهي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف ما بعد فترة الاستقلال؟
المثقف متعلم نال الحظ الأوفر من التعليم في بلادنا ، والتعليم امتياز كبير في بلادنا لأننا لا نزال بلدا فقيرا رغم إمكانياتنا الطبيعية الهائلة . وفقرنا وتخلفنا الحالي وانحطاط مقامنا في سلم الأمم ليس بضربة لازب وإنما هو ، بالدرجة الأولى ، نتاج لعجز وقصور النخبة الحاكمة ، وهي نخبة تنتمي لشريحة المتعلمين والمثقفين . ورغم الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكالحة فإن المثقف يظل في طليعة قوى التغيير لأنه عنصر أساسي من عناصر الاستنارة والتحديث . وأنا أتحدث بالطبع عن المثقف الذي ينحاز للمسحوقين ويعلي من شأن الديمقراطية وحقوق الإنسان . في بلادنا كل مواطن ، شاء أم أبى ، "مسيس" لأن السياسة تدركك أينما كنت . وبذا فإن خيار المثقف يجب أن يكون خيار "التسييس" الواعي والملتزم الذي يدفع بالتغيير .ورغم الدمار والتخريب الذي أصاب التعليم تحت ظل النظام الحالي فإن المقاومة المستمرة لهذا النظام التي لم تخبُ جذوتها قد خلقت جوا صحيا لبناء ثقافة ديمقراطية حقيقية . وفي تقديري أن بناء هذه الثقافة وترسيخ قيمها هي أهم تحد يواجه المثقفين السودانيين اليوم