السبت، 15 أغسطس 2009

خواطر مسافر من وإلى المناصير حلفا دغيم ولا باريس ولا لبنان

خواطر مسافر من وإلى المناصير حلفا دغيم ولا باريس ولا لبنان
(نزعته الرقابة)
عبد الله محمد أحمد الصادق
المكشَّن بلا بصل
شريان الشمال أقرب الطرق الى الجزيرة شرى حاضرة المناصير التي أصبحت في خبر كان، لكنه ينتهي في كريمة اما طريق التحدي فينتهي في ابي حمد.. ويتجه طريق عطبرة مروي شمالاً عبر الصحراء عند الكيلو تسعين متفادياً المرور بالمناصير.. وقد أصبحت كل الطرق تؤدي الى مروي من أم درمان، وبورتسودان، وعطبرة، لكن المناصير خارج شبكة الطرق القومية، وخارج شبكة الاتصالات تقريباً..لذلك فإن الاعتقاد السائد في المناصير أن مؤامرة تُحاك ضدهم لاجبارهم على الهجرة عن موطنهم له ما يبرره، فلماذا لا تريد الحكومة ربط البحيرة بالطرق القومية وهي تمتد مئتي كيلو داخل أرض المناصير؟ سؤال يحتاج لاجابة شافية ويشتري كيلو السمك في المناصير بمبلغ واحد جنيه ويصل ثمنه في الخرطوم الى عشرة جنيهات.. فهل هذا شكل من أشكال الحصار الاقتصادي كما يقال في المناصير؟ ولا توجد مواصلات منتظمة بين كريمة والجزيرة شري سوى البكاسي التي تأتي بالسمك صباحا وتعود ظهراً.. وفي الطريق من كريمة شاهدت قضبان السكة الحديد وقد دفنتها الرمال.. أما محطاتها فخاوية تبدو كأطلال من الماضي السحيق، وكأن لم يكن بين الحجون الى الصف كما قال الشاعر أنيس ولم يسمر بمكة سامر، وفي البحيرة شاهدت عيدان النخيل الغارقة وقد أصبحت اعجاز نخل خاوية، والنخل كالحيوان يموت عطشاً ويموت غرقاً.. وقد أسودت عيدانه وكأنها ماتت حرقاً، وتتجلى مأساة الشعوب السودانية في قضبان السكة الحديد التي دفنتها الرمال وأشجار النخيل التي اغرقتها البحيرة والناس الذين اخرجوا من بيوتهم مع العقارب والثعابين.. والمناصير ينسبون هذه العبارة الى أسامة عبد الله، ومن العبارات التي تنسب إليه أيضاً قوله انه سيريهم (المكشَّن بلا بصل) وهو حالة الطعام على النار عندما تشتد حرارته ويتبخر منه الماء وقد حدث ذلك بالفعل، والفعل ابلغ من القول وأكثر دلالة. حلفا دغيم ولا باريس تتكرر في المناصير الآن مأساة أهالي حلفا الذين أصرت الدكتاتورية الأولى على تهجيرهم الى خشم القربة مع وجود ما يكفي من الأراضي الخصبة في منطقتهم وهي معروضة الآن للبيع للدول والمستثمرين الأجانب عوداً الى عصر الاقطاع، وما زلت اذكر هتافات الحلفاويين ومواكبهم ومظاهراتهم الاحتجاجية في الخرطوم. وقد كانوا كأقربائهم المناصير الآن يعارضون الهجرة من موطنهم.. ومن الهتافات التي لا تنسى (حلفا دغيم ولا باريس).. وفي الطريق بين كريمة والجزيرة شري شاهدت سهل البان وسهل ابو حراز.. وتقدر المساحة بمائة وعشرين الف فدان تكفي اضافة الى ام سرح بالضفة الاخرى لاستيعاب اهالي المناصير وامري والحامداب.. فلماذا لم تكن تلك الاراضي الشاسعة ضمن الخيارات التي عرضت على المهجرين؟ ولماذا أصرت ادارة السدود على تهجيرهم خارج منطقتهم في صحراء المكابراب والملتقى ووادي المقدم في مشروعات غير مجدية بسبب ارتفاع تكاليف الري؟ تساؤلات يتحتم أيضاً على ادارة السدود ان تجيب عنها. بحيرة المناصير أهالي أمري والحامداب هم في الأصل من المناصير لكنهم تابعون لمركز مروي، وربما كانت الادارة البريطانية تقصد بذلك النيل من وحدة المناصير لأن ذلك يتعارض مع سياساتها في كل انحاء السودان ومشروعها الذي كان يهدف لتحويل السودان لدويلات قبلية يحكمها زعماء العشائر والغاء وظيفتي السكرتير الاداري والسكرتير القضائي لتخفيض تكاليف الادارة لصالح دافع الضرائب البريطاني فلماذا لا تريد ادارة السدود توحيد المناصير في موطنهم؟ وكان الجنرال ايريل قائد طابور النهر الذي جاء لانقاذ غردون أعلن في برتي ان كل القبائل صديقة ما عدا المناصير.. وحذر جنوده بأنهم الآن في ارض معادية وعليهم ان يتوقعوا خلف كل صخرة درويشاً يتربص بهم.. فقد كان من اهداف حملته تأديب المناصير انتقاماً لمقتل الجنرال استيورات.. وقد صحت توقعاته فقد قتل على يد المناصير في معركة الكربكان على بعد خمسين كيلو تقريباً جنوب برتي فقد دفن المناصير في ارضهم الصخرية جنرالين من الجنرلات الاربعة الذين قتلوا في السودان ولولا ان القبرين خارج منسوب البحيرة لجاءت الحكومة البريطانية ونقلت رفاتهما.. وبعد ان تمكن البريطانيون من حكم السودان تجاهلوا المناصير وفتحت أول شفخانة في عام 1938م وأول مدرسة في عام 1947 وهذا وحده يكفي لاطلاق اسمهم على بحيرة السد التي تقع في ارضهم.. وقد أعلن والي نهر النيل تعديل اسم محلية شري الى محلية بحيرة المناصير لكن كلمة المناصير حذفت من القرار الصادر في هذا الشأن ولا اتفق مع اللواء عثمان خليفة بأن اسماء القبائل لا تطلق على الأماكن الجغرافية ولدينا الكثير من الأمثلة كدار المسيرية ودار المساليت واعترفت الحكومة بالحواكير في دارفور وأصبحت المكابراب تعرف بالمناصير الجديدة رسمياً. الاصرار والتحدي: عندما غادرت المناصير في مثل هذه الأيام من العام الماضي كانوا يحاولون بناء سد حول مؤسساتهم الخدمية بالجزيرة شري وهم يهتفون (تنهد تنهد إدارة السد).. ومن أهم مقومات الصمود بقاء المدارس والمستشفى.. أما صلاة الجمعة فيمكن ان تقام في العراء.. وقبل أن أصل الى الخرطوم انهار السد واجتاحت المياه المدارس والمستشفى والبيوت والمسجد العتيق.. وتشتت الناس ايدي سبأ كما يقال في المثل العربي واعتصموا بسفوح الجبال والتلال الصخرية.. وقد تشتت السبئيون في الارض بسبب انهيار سد مأرب وتجاوزوا صحراء الحجاز الى العراق والشام وأثيوبيا والصومال واصبحت حضارتهم حكاية من حكايات التاريخ.. ومنهم جرهم التي كانت في مكة عندما جاءها ابراهيم مع زوجته هاجر وابنه اسماعيل.. لكن المناصير رفضوا أن يكونوا كذلك واصروا على البقاء في ارضهم عظة وعبرة بأقربائهم اهالي حلفا والفلسطينيين الذين هربوا من ارضهم وتركوها لليهود وهم يتباكون عليها الآن.. ولا يختلف ضحايا الجوع عن ضحايا الحرب تتعدد الأسباب والموت واحد، وعدت الى المناصير في الاسبوع الماضي وما يزال الناس يعيشون على سفوح الجبال بلا أرض ولا زرع ولا ضرع وقد باعوا اغنامهم بسبب عدم توفر العلف ويعتمدون في معيشهم على القليل الذي يأتيهم من اقربائهم خارج المناصير ولم يصلهم شئ من الملايين الاربعة التي وعدهم بها رئيس الجمهورية. الشايقية والمناصير الحال في المناصير أسوأ من دارفور لغياب منظمات الاغاثة والتعتيم الإعلامي، وليس لقضية المناصير أي بُعد قبلي ويقصد بذلك تحييد القوى السياسية وهم أقرب القبائل في الشمال الى الشايقية بدليل الطمبور كثقافة مشتركة ولا تختلف أغاني المناصير عن أغاني الشايقية وعندما ترى شخصاً في الحافلة يدندن مع اغنية من اغاني الطمبور ويتمايل طرباً في مقعده.. فإما أن يكون ذلك الشخص منصوريا أو شايقيا وقد يكون المغني عيسى بروي أو النعام آدم فهم يختلفون في ذلك عن الرباطاب والجعليين وكل القبائل العربية الأخرى في السودان.. وربما كان الشايقية والمناصير اكثر تماذجاً مع القبائل النوبية.. ولم يكن لدى العرب في الجاهلية سوى حداء الابل.. وقد تعلموا استعمال الآلات الايقاعية والوترية من الفرس بعد الاسلام وهذا موضوع يستحق اهتمام شبابنا من الباحثين في الجامعات.. ولم يحدث أي احتكاك بين القبيلتين عبر تاريخهم الممتد فقد كانوا وما يزالون يتكاملون ويتبادلون المنافع في سوق كريمة وليس لقضية المناصير أي بعد سياسي لأنها قضية مصيرية تعلو فوق الانتماءات السياسية، ولا علاقة لها أيضاً بالصراع بين فصائل الحركة الاسلامية الذي يشير الى الافلاس وطغيان المصالح الخاصة لكن ذلك لا ينفي وجود قلة معزولة تتاجر بالقضية في سوق السياسة ويعرف هؤلاء في المناصير بالكرزايات نسبة الى حامد كرازي تأثراً بالفضائيات العربية لكن اتهام حامد كرازي بالخيانة يعني الدفاع عن طالبان التي اهانت الشعب الافغاني واذلته. المناصير ودارفور لقد فشلت الانتلجينسيا السودانية في تكوين منظمة لحقوق الانسان تستمد شرعيتها من مواثيق الأمم المتحدة كقانون دولي.. أما لجنة حقوق الانسان بالمجلس الوطني فمؤسسة حكومية للدفاع عن السلطة بدليل انها تجاهلت مأساة المناصير وهي مأساة لم يعرف لها مثيل في عصرنا هذا، لأن النازحين في دارفور هربوا من ديارهم بسبب الحرب بين الحكومة والملشيات المسلحة. أما المناصير فقد اعتدت عليهم الحكومة وقضت على مجالاتهم الحيوية وصادرت حقوقهم الاقتصادية لاجبارهم على الخروج من مواطنهم لأسباب مجهولة. والدولة في أية حركة أو سكون مطالبة بالالتزام بقواعد العدالة ومتطلباتها فلا يجوز لها ان ترتكب الظلم لأن ذلك يتنافى مع مبرر وجودها.. وبعد سبعة اعوام من بداية العمل في الخزان وثلاثة اعوام من الاعتراف بالخيار المحلي لم يبدأ العمل في مشروعات الاعاشة المتفق عليها كبديل عن الأراضي التي اغرقتها البحيرة وما يزال المناصير في انتظار التعويضات ولا يوجد حتى هذه اللحظة اتفاق حول فئات التعويض فقد كانت الحكومة خصماً وحكماً في كل المراحل. وقال لي رئيس اللجنة القانونية الاستاذ محمد الفاتح طيفور انهم جاءوا لحصر النخيل والبيوت ولا علاقة لهم بالأرض، لكن الارض هي الاصل الذي قامت عليه المزروعات والبيوت.. وقد منح اهالي حلفا خمسة عشر فداناً اضافة الى الاملاك الحرة التي تجاهلتها ادارة السد مقابل ستة افدنة للمناصير في ارض من الدرجة الثالثة قياسا بأرض البطانة الطينية الخصبة وفي مشروعات غير مجدية بسبب ارتفاع تكاليف الري. الجزيرة شري تقدر مساحة الجزيرة شري بعشرين كيلو متر وهي هضبة بركانية في سفوحها سهول تضيق وتتسع وقد تحولت تلك السهول الى ارض زراعية خصبة يتراكم الطمي فيها عبر آلاف السنين. وكانت تروي بالسواقي.. وعند صدور قانون تسجيل الاراضي في عام 1925 اكتفى المناصير بتسجيل الاراضي التي كانوا يستطيعون الاستفادة منها وفي حدود قدرتهم على سداد الرسوم المقررة، لكنهم توسعوا في عصر الديزل ودبة بريق في قرية ام لقاديب أرض مرتفعة نسبياً يبدو انها استعصت على الفيضانات الموسمية في العصور الخالية وقد طوعها الاهالي وزرعوها ويتميز المناصير بالتفاني في خدمة الارض وتفجير طاقاتها لعدم توفر ما يكفي من الأراضي الزراعية، وأرض بريق في اللغة العربية تعني خليطا من التراب والحصا: لخولة أطلال ببرقة تهد تلوح كباقي في الوثم في ظاهر اليد وقد أنتقل الناس في شري الى سطح الهضبة وهو خليط من الحصا والتراب البركاني.. وكان المناصير يستعملونه كسماد طبيعي قبل اختراع السماد الصناعي ويسمونه الماروق.. وقد وعدهم الوالي بتسوية سطح الهضبة وانشاء مشروع زراعي تقدر مساحته بالفي فدان لكنه لم ينجز شيئاً بعد عام من الانتظار ولم يبدأ العمل في مشروعات الاعاشة المتفق عليها في ام سرح وأبي حراز والخيارات المحلية الاخرى.. وقد يكون ذلك مماطلة وتسويفاً كما يقولون لاجبارهم على الرحيل ولا يبدو مشروع الهضبة مقنعاً. وعلمت من سليمان محمد جودي ان الارض لم يتم فحصها معملياً للتأكد من صلاحيتها، وهذا عمل عشوائي وقد تم تغييب المؤسسات الحكومية المختصة في المكابراب والغدا والملتقى ووادي المقدم واخشى ان يتكرر ذلك في خزان الشريف وخزان كجبار فإدارة السدود ليست جهة مختصة بالتهجير واعادة التوطين وكان مشروع الحويلي عملا عشوائياً بدليل ان النتيجة كانت صفرا بعد مرور عشرة اعوام من بداية العمل واهدار المليارات من الجنيهات بسبب غياب المؤسسية وحكم القانون.. وليس صيد الاسماك بديلا عن الزراعة فاستعملوا السلوكة في زراعتها لكن منسوب البحيرة آخذ في الارتفاع وكان المناصير مزارعون ينتجون حاجاتهم من القمح والذرة فلم يتأثر المناصير بالمجاعة في عام 1983م لكن الدورة الطبيعية اختلت الآن وستكون الأرض الزراعية في الشتاء القادم تحت الماء.