الاثنين، 22 يونيو 2009

العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع(5)(نزعته الرقابة)



العلاقات السّودانيّة المصريّة في ظلّ اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع(5)(نزعته الرقابة)
د.محمد جلال هاشم

محمّد جلال أحمد هاشممجموعة العمل النّوبي أثارت هذه الأنباء المفاجئة مخاوف وقلق النّوبيّين، فتنادَوا ذرافاتٍ ووحدانا للتشاور وتبادل الرّأي بخصوص ما أُعلن. وكانت دار اتّحاد المحس والنّادي النّوبي بالخرطوم مسرحاً للعديد من اللقاءات التّلقائيّة والتي سرعان ما تبلورت في جسم أطلقوا عليه اسم "مجموعة العمل النّوبي". قامت المجموعة بجمع معلومات سريعة عمّا نُشر، حيث تكشّفت لهم أشياء مثيرة للقلق، منها أنّ هذا المشروع لم يمرّ عبر قنوات جهاز الاستثمار القومي، كما إنّ الأراضي التي يستهدفها هذا المشروع لا تقع في الحقيقة بمنطقة أرقين غرب وادي حلفا، بل بالحوض النّوبي الذي يبدأ بعد حوالي 30 إلى 50 كلم غرب النّيل. تكثّفت تحركات النّوبيّين في الدّاخل وفي دول الشّتات، مستنكرة لما رأت أنّه بيع للنّوبيّين ولأراضيهم. إزاء تحرّك النّوبيّين قامت وزارة الزّراعة بإصدار بيان أعلنت فيه أن المساحة المقصودة ليست 6.1 مليون فدّان، بل 1.6 مليون فقط،مشيرةً إلى أنّ الرّقم الأوّل جاء خطأً. بيد أنّ الجانب المصري ـ والذي يشكل مصدر المعلومات الرّئيسي في هذه القضيّة حتّى الآن ـ لم يبذل أيّ جهد لتصحيح هذه المعلومة. أدّى هذا إلى ازدياد اهتمام العديد من القطاعات النّوبيّة بهذه القضيّة، خاصّةً عندما تبيّن أنّ الحكومة المصريّة قد قامت قبل ذلك ببيع أراضي النّوبيّين المصريّين بنفس الطّريقة دون أن يكون لأصحاب الأرض نصيب. مذكّرة المجموعة لكوفي عنان وهكذا تمكّنت مجموعة العمل النّوبي من صياغة مذكّرة ضافيّة رُفعت في يوم 18 أبريل 2004 إلى السّيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتّحدة بخصوص الحوض النّوبي. خاطبت المذكّرة السّيد الأمين العام قائلةً: "نكتب لك، نحن النّوبيّين النّيليين بالسّودان، هذا الخطاب بوصفكم السّكرتير العام للهيئة التي تمثل المجتمع الدّولي. إنّ هذه بمثابة رسالة استغاثة يبعثها لكم أناس مسالمون حوّلتهم فضيلة السّلام هذي إلى ضحايا". وقد ذهبت المذكّرة إلى حدّ اتّهام الحكومة السّودانيّة ببيع مواطنيها لأسباب سياسيّة وأيديولوجيّة مشيرةً إلى أنّ: "... المفاوضات جرت على أعلى المستويات مع الحكومة المصريّة، وذلك في سبيل تمكين توطين ملايين الفلاحين المصريّين بأسرهم في مثلّث الحوض النّوبي (حلفا ـ عوينات ـ دنقلا) داخل السّودان. وقد تبيّن أنّ الهدف من هذه الخطوة هو حماية الهويّة العربيّة في السّودان من خطر تنامي الوعي بالأفريقانيّة في السّودان عامّة وفي أوساط النّوبيّين خاصّة". ثمّ كشفت المذكّرة عن الخطّة التي من خلالها سيتم إضفاء المشروعيّة والصّفة القانونيّة على عمليّة البيع: "وقد تمّ الإعلان عن كلّ هذا تحت ستار خطة أطلق عليها "الحريّات الأربع" والتي تسمح نظريّاً للسودانيّين والمصريّين على حدٍّ سواء بامتلاك الأراضي الزّراعيّة والاستقرار في كلا البلدين. ... إذ ليس هناك أراضي زراعيّة يمكن للمستثمرين السّودانيّين أن يحوزوها في مصر، بينما هناك أراضي وفيرة في السّودان ينظر إليها المصريون بطمع بغية امتلاكها. ... لم يأت ذكر للنّوبيّين في كلّ هذه العقود التي أبرمت بليلٍ". مصر الإمبرياليّة ثمّ قامت المذكّرة بتوجيه الاتّهام الصّريح لمصر زاعمةً أنّ لها أطماعاً توسّعيّة بالسّودان: "لقد كان لمصرـ ولا زال ـ أطماعها الاستعماريّة بالسّودان، ذلك بوصفه الفناء الخلفي لها. لهذا كلّما قلّ عدد السّكان بالمنطقة، كلّما سهل احتلالها. ... إنّ مصر لم تتخلّ عن أطماعها التّوسّعيّة في السّودان منذ الاستعمار المصري ـ التّركي (1820م-1885م). وقد جاءت شراكتها مع بريطانيا في الاستعمار الثّنائي (1899م ـ 1956م) امتداداً لتلك الأطماع. والآن مع إرهاصات تفكّك السّودان إلى دويلات ضمن تداعيات احتمال انفصال الجنوب، فإنّ مصر تخطّط لضمّ الإقليم النّوبي النّيلي بالسّودان والذي يقع أسفل إقليم الشّايقيّة، وذلك تحت ادّعاءات حماية أمنها المائي". ولتوكيد هذا الزّعم أشارت المذكّرة إلى أنّ مصر: "... لا تزال تحتلّ منذ عدّة عقود مثلّثي سرّة، شمال حلفا، وحلايب، على البحر الأحمر. ولكن يبقى مثلّث الحوض النّوبي (حلفا ـ عوينات ـ دنقلا) هو الهدف الإستراتيجي لمصر، حيث تعمل لضمّه لما يُسمّى "مشروع توشكى" بمصر العليا". وتمضي المذكّرة في تقديم تفصيلات أكثر لما تراه أطماعاً مصريّة في السّودان: "إنّ مصر تخطّط لإقامة مثلّثها الاستعماري الاستيطاني الأكبر بالسّودان، والذي يمتد من جبل عوينات عند تقاطع الحدود السّودانيّة ـ الليبيّة ـ المصريّة حتّى حلايب على البحر الأحمر، على أن تكون دنقلا هي رأس المثلّث الجنوبي". كانت تلك المذكّرة بمثابة ضربة البداية لمباراة طويلة لم ينته شوطها الأوّل حتّى الآن. فبدايةً نشير إلى أنّ أهمّيّة تلك المذكّرة لا تكمن في لهجتها القويّة بقدر ما تكمن في أنّ من أصدروها هم نوبيّون. فأكثر السّودانيّين تعلّقاً وعلائق بمصر هم النّوبيّون، فأشواقُهم فيما عُرف عنهم تاريخيّاً كانت دائمّاً تملأ أشرعتَها رياح المحبّة المصريّة. ولكنّا في المقابل نُشير إلى أنّ رئيس الوزراء السّوداني الوحيد الذي أعلن استعداده لمواجهة مصر وأطماعها التّوسّعيّة في السّودان، كان عبدالله خليل، وهو ليس فقط نوبيّاً، بل وذو وشائج قربى قويّة بمصر إذ ينحدر من النّوبة الذي يقعون على الجانب المصري، وتحديداً من قرية أدندان. ثمّ لا نحتاج لأن نشير إلى أنّ من أعلنوا استقلال السّودان اكتسحوا الانتخابات تحت شعار وحدة وادي النّيل. وفي الوقع هذه بعض معميّات الشّخصيّة السّودانيّة التي استعصى فهمها على المصري، مواطناً عاديّاً كان، أم وزيراً، أم باحثاً أكاديميّاً. إذن فقد نشطت منظّمات المجتمع المدني النّوبيّة في الدّاخل والخارج، وهذا ضرب من النّشاط عُرف به النّوبيّون منذ عهود قديمة وهم فيه روّاد. من جانبها واصلت الحكومة على النّفي، ثمّ النّفي، ثمّ النّفي، بينما سيل الأخبار المناقضة لنفيها تترى من القاهرة بين الفينة والأخرى. في هذا برزت عدّة تنظيمات سياسيّة نوبيّة، أغلبها ممّن تأسّس في عقد التّسعينات من القرن العشرين؛ وقد أعلن بعضها استعدادها لحمل السّلاح في حال دخول المصريين الحوض النّوبي. وكان للمواقع النّوبيّة الإلكترونية العديدة دور كبير في تعبئة الرّأي العام النّوبي، بمصر والسّودان. نفي واستنكار: لا وألف لا! انقضى عام 2004م والعديد من المسئولين الحكوميّين قد نفَوا وشدّدوا النّكير في أنّ الذين يردّدون مقولات بيع الحوض النّوبي للمصريّين ما هم إلاّ أعداء للثّورة والوطن، إذ إنّ ما يردّدونه لا يعدو أن يكون بضاعة معارضة كاسدة لن تجد من يشتريها من الشّعب، نوبيّين أو غير نوبيّين. وقد بدأ مسلسل التّراجع عمّا ورد بجريدة الصّحافة المشار إليها أعلاه، إلى أنّ الرّقم الصّحيح هو 1.6 مليون فدّان وليس 6.1 فدّان التي وردت كخطأ فنّي. ليس ذلك فحسب، بل ذهب الدّكتور صادق عمارة (وزير الدّولة بوزارة الزّراعة) إلى التّنبيه لدى ملاقاته للعديد من النّوبيّين، صدفةً أو تدبيراً، إلى أنّه كنوبي (كذا!) لا يمكن أن يقوم بعملٍ كهذا. وقد تصدّت للدّفاع عن نزاهة الرّجل إزاء ما يُقال من أنّه فعل ذلك إحدى سكرتيرات مكتبه من النّوبيّات، فشرعت في تدبيج البيانات في المواقع النّوبيّة ثمّ في إحدى غرف الـ Pall Talk النّوبيّة، مبديةً استعداد السّيّد الوزير للمشاركة في الغرفة للرّدّ على استفسارات المواطنين الذين أقلقهم ما ورد في مذكّرة مجموعة العمل النّوبي. وبالفعل، نجحت تلك الحملة المضادة في شقّ صفوف النّوبيّين، فإذا هم بين مصدّق ومكذّب لما ورد. فالأمر في نهاية المطاف تحوّل إلى "كلام جرايد"، وليس أكذب في عرف الشّارع السّوداني من ذلك. كلّ هذا حدث قبل توقيع اتّفاقيّة الحرّيّات الأربع بين حكومتي مصر والسّودان، وهي الاتّفاقيّة التي تعطي نظريّاً المصري والسّوداني على قدم المساواة حق التّنقّل والإقامة والعمل والامتلاك. ونقول "نظريّاً" لأنّ واقع الحال سيكشف أنّ السّوداني حرّ فعلاً، لكن بحدود؛ هذا بينما يتفوّق عليه المصري في كون الأخير أكثر حرّيّةً من السّوداني فيما يتعلّق بهذه الحقوق نفسها.