الخميس، 25 يونيو 2009

بناء على ما جرى للدارفوريين


بناء على ما جرى للدارفوريين
صلاح شعيب
ممنوع من النشر بامر الرقيب الأمني

برغم المسافة الزمنية ـ والتي توازي عمر طالب جامعي ـ بين حادثة يوليو 1976 وحادثة أمدرمان 2008 إلا أن التمييز العرقي في السودان لا يزال المحرك الاساسي لذاكرة السلطة المركزية وقطاعات واسعة من نخب الوسط النيلي.

أثنان وعشرون عاما لم تسهم في تقصير الفجوة العرقية بين نخب وسط السودان وغربه، وإنما أعلنت بكل وضوح أن العرق هو المعزز لهذه الدولة وليس العقل. وفي هذا لم يشفع للسلطة إدعائها في الانطلاق من "النهج الرباني" ولا حتى وجود عناصر "مؤلفة القلب" من دارفور من التعامل مع تداعيات أحداث أمدرمان بحساسية تراعي موجبات ذلك "النهج" ومستحقات خصوصية "توالي" بعض أبناء غرب السودان خلف مشروع الحركة الاسلامية الذي تم قام بتوظيفهم بما فيه الكفاية، ولعل قائد السرب العسكري الذي دخل امدرمان ليسقط السلطة نفسه كان واحدا من أبناء دارفور الذين "أبلوا بلاء حسنا"، كما قد يقول زملاؤه السابقين، في تمديد مساحات السلطة الاسلاموية، غير أنه وجد نفسه، في ملابسات مراجعة موقع اخوانه الدارفوريين في التوظيف داخل السلطة ليس مؤثرأ، وعرف حينها أن الحركة الاسلامية إنما هي لله "فقط" حين لا تجد أحدا يصارحها أن كل المؤمنين أخوة في تقاسم الرزق في الدولة، وأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

الاعتقالات التي تمت والاهانات التي تعرض لها بعض أبناء غرب السودان والاشارات الرمزية الممعنة في العنصرية لأجهزة الاعلام الرسمية وبعض الصحف التي "توالي" النظام عبرت عن حقيقة نفوس السياسين الذين يصونون "المشروع"، وهؤلاء الذين يعتاشون من دعمهم له.

وفي الاثناء، جاءت مبادرة التراضي، والتي سبقها ظهور للسيد الصادق المهدي في القصر الجمهوري مؤيدا ومؤازرا وداعيا إلى "عدالة رادعة" تجاه "الغزاة والمرتزقة"، لتهدم كل الافتراضات القديمة أن حزب الأمة هو المجسر في العلاقة بين غرب السودان وبقية أجزاء القطر، ولكن اتضح أنه الحزب الذي يركب قائده على ظهر أبناء الغرب ليصل إلى الكرسي الوثير في أيام الديكتاتوريات وأيام الانظمة الديمقراطية مهما كان "ثمن الكيفية" التي تنزع بها السلطة، ولعل المهدي العارف بالتاريخ يدرك كم من الموتى المغرر بهم يذهبون هدرا في سبيل اسقاط السلطان أو المحافظة عليه أيضا.

لقد جاءت حادثة أمدرمان لتنبئنا عن عمق الشقاق في العلاقة بين سودانيين وسودانيين. وللأسف الشديد أن العناصر المسببة لهذا الشقاق ليست في البرامج السياسية المؤدلج وغير المؤدلج منها، أو في طريقة التفكير وأخرى، أو في انتهازية الهدف أو صدقه. وبدا أن جانبا ضيقا في فرز اللون ـ وشيئا من نطق الحروف العربية واختلافا ضئيلا للملامح ـ هو الدافع الاساسي في تدعيم هذا الشقاق وتنميته وقيادة السياسة بناء عليه.

فعدم حياد العرق في الدولة مؤسس وموطن بآليات وأفكار وممارسات، وإلا لما اشتعلت الاطراف ذات اللهجات المتمايزة والالوان غير المفضلة ضد سياسة الدولة المركزية التي تنمي أشخاصا على حساب آخرين، وتفضل تنمية مناطق محددة وتحجيمها عن أخرى وتفكر لصالح وجود أقوام خصما على آخر، وتكافح للمحافظة على سلطة فاشلة قوميا لحساب قلة ديمقراطية وشمولية ، وتختلف آيدلوجيا ما شاء لها الاختلاف والاحتراب ولكنها تتفق حول المحافظة على موازين الدولة بناء على المنظور القبلي.

هذه هي الحقيقية التي يجب علينا أن نضعها في أولويات التفكير إن شئنا سلاما للبلد ومستقبلا طيبا ومستقرا، وهذا هو "المسكوت عنه" الذي لا ترضى بعض النخب في الوسط النيلي مجرد الاستماع إليه، مفضلة أن يكون منهج التفكير السياسي قائما على الوقوف بجانب الديمقراطية أو ضدها، بجانب الدولة العلمانية أو مواطنيتها، بجانب الحداثي في الرؤى او في جانب التقليدي منها، بجانب فكر الاسلاموية الفظ او الاسلاموية المعتدلة.

فما فائدة الديمقراطية إن لم يسبقها إقناع المناضلين لجلبها بإعتراف مؤداه أن عدم حياد العرق لن يحمي الديمقراطية المتصور استدامتها..؟، وما فائدة العلمانية إن كانت تكرس لشلليات عرقية على حساب أخرى تواسيها بالفتات..؟، وما معني الجدل حول بناء مستقبل للتراضي الوطني، في مدلوله السياسي، والقومي في معناه العرقي/التعددي، إذا كان الظلم البائن نحو عرقيات محددة يقابل بتجاهل وعدم مسؤولية تجلب حروبات ومآس وكوارث لا يسلم منها أحد.

فما ضر السودان شيئا مثل محاولة النخب المسيطرة على السلطة وبعض معارضيها الذين يمسون "المسكوت عنه ـ في طوره العرقي" بطرف وخجل. أما إذا مسه الآخرون المتظلمون، والذين يعايشون تمييزا عرقيا في كل سحابة يوم ، تم استهدافهم بدمغ شخصيتهم بالعنصرية، دون أن يتم الحوار الموضوعي حول طبيعة هذه التظلمات التي تبتدر منهم. وبخلاف ذلك تحاول نخبة هنا وهناك استخدام منهج اللف والدوران لنسف "مصطلحات" لم يستطع المتظلمون في تدعيمها بالحجة الاكاديمية..برغم أن المضمون الذي قصدوه يعني ميل ميزان العدالة في سودان لم يقف في قيادة قراره السياسي الاكيد لا جنوبيين ولا غرابة ولا بجا ولا نوبة جبال.

وهكذا ـ وللمفارقة ـ أنه تقف الاعتقالات المبنية على "لون مفترض" لأبناء دارفور، والاهانات التي تعرضوا لها برهانا جديدا وساطعا على أن وجود أبناء دارفور من القياديين في السلطة إنما هو صوري لا يسمن ولا يغني من جوع في تغيير مفاضلات ومعاظلات القرار السياسي، ما دام أن لا حول ولا قوة لهم على حمل زملائهم في السلطة على احترام حقوق المواطنة وصونها في المحكات كما في الازمان العادية، وما دام أن الاعلام الرسمي وحتى برنامج "حقيبة الفن" يعمق في وصف أعضاء حركة العدل والمساواة بأنهم مرتزقة، وما دام أن لا أحد من أبناء دارفور المستشارين في القصر يستشار بالدرجة التي قد تؤثر نصائحه على خطة مسؤولي الامن ويحمي، من ثم ابرياء منطقته، حتى لا يأخذون بجريرة من فعلوا ما سمي بـ "الغزو". والغريب انه يحدث هذا دون أن يخرج علينا رشيد من القوم الدارفوريين في السلطة بالاستقالة المبررة أنه لا يرضى لاخوانه في العرق والمنشأ وضعا مهينا كما عرضه التلفزيون الحامل للمسمى القومي.

بعد كل هذه الحيثيات التي شاهدها الناس باعينهم على الارض، ولم تكن افتراضا نظريا، لماذا ينكر بعض الكتاب عدم وجود التمييز بين السودانيين، والقول بأن الصراع هو ذي ابعاد ايدلوجية فقط منذ أن قامت قيامة الاستعمار في بلادنا..؟ ولماذا يتم الالتفاف على حقيقة الصراع بين أبناء المركز وأبناء الهامش بواسطة نفيها ما دام أن لا شفيع لأبناء الهامش الابرياء والمستوزرين يحميهم حين تقع الواقعة على الدولة المركزية ويتم توجيه الضرب والاهانة وشتم القبيلة والبصق على الوجه بناء على لهجتك..؟

ولماذا كل هذا النفي المكرور والممجوج لحقائق "الكتاب الاسود" ما دام أن السلطة التنفيذية الفعلية ظلت تاريخيا مسيرة بواسطة أبناء الوسط النيلي ولا نحتاج حتى إلى كل تلك الأرقام المخيفة التي ذكرها الكتاب لإثبات شمس الحقيقة..؟ ولماذا إجمالا يتم وصف هذا الكتاب بالفكرة العنصرية التي توقظ الفتنة التي يقولون إنها نائمة ويلعنون من يوقظها، بينما براكين الفتن تقذف بحممها ليل نهار في اطراف البلد، وبالشكل الذي لا يحسه كليا مجموع أهل المركز حتى يتعاطفوا انسانيا مع ساكني هذه الاطراف..؟ وكيف يجوز للباحث الداحض لنظرية سيطرة المركز على الهامش، والمفترض فيه الناحية الاخلاقية، أن يقنعنا أن السلطة طوال هذه الاثنين وعشرين سنة الماضية قد عمق الصهر الاجتماعي للمواطنين بما يجعل من امكانية تصنيف السودانيين بلهجاتهم وتعذيبهم وفقها أمرا غير ممكن...؟ وإلى أي مدى يساعد هذا الاسلوب الفكري العقيم في نكران الظلم الاجتماعي في بناء سودان علماني أو ديمقراطي أو اسلاموي مستقر إذا كان الفكر القبلي ظل هو المدد الاعظم في تسيير شؤون الدولة، وبه يتم صيانتها من "أدواء الزمان".

إذا كانت هناك ملامة موجهة للمسؤولين في الدولة فإن الملامة الكبرى يجب أن توجه للقيادات السياسية من ابناء دارفور والتي لم تسجل موقفا حازما تجاه ما حدث لأبناء غرب السودان. مرة اخرى، لم نشهد استقالة وزير سيادي واحد ـ إن وجد ـ أو وزير دولة أو نائب برلماني أو نائب والي ازعجتهم الطريقة غير الانسانية التي تم بها اعتقال او استفزاز وقتل بعض ابناء دارفور والذين لا يد لهم فيما حدث في ذلك اليوم