الأربعاء، 10 يونيو 2009

مقال محظور...هل نستيقظ... في بيت أم اليقظة؟!


المقالان الخامس والسادس أكتوبر 2008
مقال محظور.. هل نستيقظ في بيت أم اليقظة؟
كان من المفترض أن ينزل هذا المقال في حلقتين بتاريخ 6 و13 أكتوبر 2008 بصحيفة أجراس الحرية ولكن السلطات الأمنية صادرت الجزء الأول منه بحجة أنه ممنوع التعرض لقضية شهداء 28 رمضان.
ومع رفضي لكل أشكال مصادرة الحريات بشكل مبدئي إلا أنني أقول من جديد: ليس بين هؤلاء رشيد، فهذه القضية لن تموت بالتقادم كما أثبت في المقال ولن تقبرها المصادرات الأمنية وستؤجج عاجلا أم آجلا نيران كان من المصلحة معالجتها منذ البداية.
بسم الله الرحمن الرحيم
بيننا
هل نستيقظ... في بيت أم اليقظة؟!
عدالة للجميع (1-2)
في أمسية الأحد 28 رمضان كانت الذكرى الثامنة عشرة لشهداء رمضان، وقد اشتملت على كلمات وقصائد قدمها المحامي الأستاذ ساطع الحاج وخلف المنصة لوحة إعلانية مكتوب عليها: الذكرى 18 لحركة 28 رمضان المجيدة- ما ضاع حق وراءه مطالب. أما مسرح الذكرى فكان منزل الأستاذ الفاتح يوسف والسيدة نفيسة المليك والدي الشهيد رائد طيار أكرم الفاتح. ووالدته السيدة نفيسة كما أشرنا من قبل في منبر صحفي مختلف هي الرائدة النسائية المعروفة وصاحبة مقال شهير في خمسينيات القرن العشرين بعنوان: (أما آن لنا أن نستيقظ؟). في تلك الليلة ساد خطاب طبيعي في محله ولكنه صادم من حيث وقوفه على طرف قصي من المتداول في المنابر السياسية الحالية.. خطاب يهز كل مستمع إليه ونحن نود لو نبادل قارئنا الكريم وقارئتنا الكريمة بعض ما دار وبعض الأفكار.
أثار الأستاذ ساطع الحاج في كلمته التقديمية بعض النقاط حول طبيعة المحاكم التي قدم لها الشهداء، فلم تتح لهم حقوقهم في المحاكمة العادلة ولا أتيح لهم حق المحامي ولكن أعدموا ولم يتح لأي من أسرهم ملاقاتهم أو حتى معرفة مكان دفنهم.
ووزّع على الحاضرين يومها مطبق يركز على هذه المسألة من قبل (الحملة القومية لرد قبور الشهداء لأهلها) تحت شعار: أوقفوا ثقافة مصادرة الجثث! في المطبق إشارة لأن الحملة قومية تهدف للكشف عن قبور الشهداء الذين تمت مصادرة جثثهم منذ الاستقلال وحتى الآن وتذكر منهم: قبر الشهيد مكي محمد مكي رئيس تحرير جريدة الناس 1969م- قبر الشهيد د. محمد صالح عمر الحركة الإسلامية الجزيرة أبا- قبور شهداء قرار الانقلابات العسكرية 19 يوليو 1971م- قبور شهداء انقلاب مناهضة الجبهة الوطنية (أي انتفاضة يوليو المسلحة في 1976م)- قبر الشهيد محمود محمد طه 1985- قبور شهداء ضباط حركة 28 رمضان- وقبور شهداء 10 مايو (أحداث أم درمان) 2008م.
وأضاف الدكتور أمين مكي مدني قبور شهداء ما سمي بالمحاولة العنصرية في 1975م بقيادة حسن حسين، مشيرا لأن ما حدث في كل تلك المرات لا يقبل على أسس قانونية ولا أخلاقية ولا إنسانية ولا دينية، وأمن على ضرورة كشف قبور الشهداء لأسرهم في كل تلك الحالات: في الشجرة في 1971م- وفي انقلاب حسن حسين 1975- وفي حركة يوليو 1976م- وفي 28 رمضان- وفي 10 مايو 2008م- مؤكدا أن المسألة تخرج عن البعد السياسي ولا تعنى بالدفاع عن خط القائمين بتلك الحركات بقدر ما تعنى بأسس العدالة وحقوق الإنسان. ثم تطرق للانتهاكات التي تمت في أصقاع الدنيا وكيف تم التعامل معها في نيكاراغوا وتشيلي والأرجنتين في أمريكا اللاتينية، وفي تيمور الشرقية بآسيا، أو في أفريقيا بعد نهاية نظام الأبارثيد في جنوب أفريقيا، مركزا على التجربة المغربية لكشف أخطاء الماضي التي جرت تحت حكم الملك الحسن حيث أجبرت منظمات المجتمع المدني الملك الحالي (محمد الخامس) ليبحث عن الانتهاكات الماضية في عهد أبيه ولكشف القبور الجماعية وتوزيع التعويضات لأسر الشهداء. وقال إن تجارب الحقيقة والمصالحة التي جرت في كل تلك البلدان تثبت للأجيال القادمة مواضع الخطأ لكشفها وليعرف الناس من المسئول عنها ولكن العقوبة مسألة أخرى.. وقال إننا نحتاج في كل تلك الأحداث لأن نعرف كيف حوكم المحاكمون ومن حاكمهم؟ وكيف وما هو الحكم؟ وأين دفنوا؟ وقد أعقبه الأستاذ عبد الله آدم خاطر ملخصا ما عرض بأن مسألة الإعدامات الجزافية أصبحت نمط حياة لدينا في السودان وأنه يجب أن نبحث عن البداية الحقيقية للوصول لقبور الشهداء وليس الإدانة السياسية.
ولعل من أبلغ ما قيل يومها وأشده مبعثا لليقظة كلمة وقصيدة الأستاذ الشاعر العملاق محجوب شريف، قال كلمة حاولنا التقاط بعضها جاء فيها:
(كنت محرجا جدا لأنني لم أقف يوما من الأيام في هذا المنبر، قصّرت جدا حتى في واجب العزاء، لم يكن هذا إلا ذلك السلوك الذي يضيّق من فرص الرحابة، النظر إلى الآخر كأنه لا يعنيك. شهيد هنا ومرحوم هناك، كل من سقط في مواجهة الظلم هو شهيد. كتبت لهاشم العطا ولم أكتب لمحمد نور سعد- الرصاص هو الرصاص- علينا أن نتجاوز هذه الحزبية الضيقة).. ثم التفت إلى السيدة نفيسة المليك بجانبه وقال لها: (أمي العزيزة أنا أعتذر حقا، وأعتذر لفواز (ابن أحد الشهداء وقد تحدث باسم أبناء الشهداء في تلك الليلة) صار رجلا ولم أدخل بيته. أذكر حينها كم حزنّا وصار الحزن كالأسلاك الشائكة، كتبت قصيدة لم تكتمل وفيها:
ما أرخص أرواح الناس
إذا ما الحاكم بقى قناص
الليلة الوقفة وبكرة العيد
كعك العيد في الإيد اتحوّل بقى رصاص!
العبرة الأساسية حقا أن نتجاوز ذلك. حسن حسين شهيد ومحمد نور سعد وهاشم العطا حتى شهداء رمضان. مجهولو القبور فضيحتنا الكبرى، أن يظل هذا مطلبا وأن نتنادى له لعقود ونتحدث عن التحول الديمقراطي ليتحول القتلة تلقائيا إلى جزء من الحياة السياسية).. وقال للسيدة نفيسة من جديد: أقبلت عذري. أشرب معاك الشاي؟
ثم تلا قصيدة رائعة فيها رشف من قصيد الحقيبة التليد اختتمها بقوله:
البساوم قط ليس منا.. والبخون الشهدا الكرام
ثم غادر المنصة وقد ملأ الحضور بعظمة اعتذاره، خاصة وقد حضر بعضهم أو سمع أو قرأ عما جاء في خيمة الصحفيين في رمضان المنصرم وتداولته الصحف حيث اعتذر عن تأييده لمايو ورفع لافتة مطبوعة فيها: لا حارسنا لا فارسنا ولا مايو الخلاص..
كما تحدث مولانا محمد الحافظ محمود مؤكدا أن قتل الشهداء كان في رمضان عن سوء نية ولاعتبارات لا يعتمدها شارع أو قانون، ومشيرا لضرورة العدالة ولكن ترسانة الحصانات الموجودة تمنعها.
ونحن نزمع أن نتعرض لجانب آخر من كلمات الذكرى في مقالنا القادم بإذن الله. لكننا اليوم نود أن نركز على هذه الكلمات التي سقناها والتي تشير إلى شيئين: الأول: أن هناك مظالم طالت أقوام سودانيين كثر منذ الاستقلال، وأن هذه المظالم لا يمكن أن تترك كما هي تغذي الكراهية وتثمر الطحان وهذا ما ستؤكده الكلمات الواردة في الحلقة الثانية من المقال إن شاء الله. والشيء الثاني هو: أن النهج القديم في السياسة السودانية كان يقسّم الناس إلى أحزاب وجماعات وكل حزب بما لديهم فرحون (أو منشغلون) ولا يهتمون بالآخر على النحو الذي كان في كلمة شاعر الشعب بشكل بليغ.. ونحن محتاجون للتخلص من هذه الحالة التي تتجاهل الآخر وتقول: كلهم أبنائي، كما في مسرحية الكاتب الأمريكي الشهير آرثر ميلر..
لقد أشار لحقيقة انتهاكات الحقوق الإنسانية في السودان من قبل بتفصيل كبير السيد الصادق المهدي في ورقة قدمها في مؤتمر (حقوق الإنسان في فترة الانتقال) والذي نظمته منظمة (جستس أفريكا) في كمبالا في فبراير 1999م وكانت ورقته بالإنجليزية بعنوان: المولد الثاني للسودان في مهد حقوق الإنسان المستدامة. وقد ترجمت للعربية ونشرتها دار الأمين (القاهرة) في كتاب بعنوان: حقوق الإنسان في السودان (1999م). في ذلك الكتاب قال: خلال السنوات التسع التي قضتها الحكومات الديمقراطية في السودان كانت انتهاكات حقوق الإنسان هي الاستثناء، بينما انتهاكات حقوق الإنسان هي القاعدة في سنوات الحكومات الاستبدادية. ثم قدم قائمة من 43 انتهاكا لحقوق الإنسان مرتبة ترتيبا زمانيا ليست شاملة ولكنها تحوي أحداثا بقى تأثيرها في الذاكرة الوطنية على حد تعبيره، منها الأحداث الدامية في أغسطس 1955م، والموت الجماعي للمسجونين في عنبر جودة، والهجوم المسلح على المدنيين في احتفالات المولد 1961م، واضطهاد المدنيين الجنوبيين في جوبا وواو في 1965م، وحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان 1965م، وإقامة انتخابات بدون تنافس وإشراك المواطنين في الجنوب 1965م، وحل الجمعية التأسيسية بطريقة غير قانونية 1968م، ومقتل السيد وليم دينق 1968م (وهذه الحادثة ستكون موضوعا للتفصيل لنا لاحق بإذن الله)، ومجازر أبا وودنوباوي ومقتل الإمام الهادي 1970م، وهكذا. أورد السيد الصادق المهدي عددا من الانتهاكات كان من ضمنها إعدام الضباط الثمانية والعشرين في 28 رمضان.
ثم دعا لسياسة فعالة وصحيحة تجاه انتهاكات حقوق الإنسان تهدف إلى أولا: إظهار الوقائع كما هي حتى يمكن تأسيس الحقيقة على إقرار رسمي وبصورة متفق عليها ولتكوّن رواية رسمية للأحداث تعلو على الاعتبارات الحزبية، وثانيا: يجب أن تعبّر هذه السياسة عن رغبة الشعب بطريقة صحيحة، وثالثا: لكل قطر ظروفه الخاصة التي تؤثر على تعامله مع هذه القضية، لا سيما بين الظروف التي تحتم اتخاذ إجراءات رحيمة وتلك التي تتطلب إجراء المحاكمات والعقوبات. وقال: إن لبيان وتثبيت الحقائق أثرا علاجيا وبحسب كلمات روجيه إيريرا، عضو مجلس الدولة الفرنسي فإن "الذاكرة صورة قصوى للعدالة" كما أن له دورا رادعا لأن "قول الحقيقة حل الماضي يقوّض الأساس الفكري لانتهاكات حقوق الإنسان".
ودعا لأن توضع تشريعات تحكم تكوين لجنة الحقيقة والاتهام ونصوص مرجعيتها وإجراءاتها والإطار الزمني، داعيا لأن تطال التحقيقات كل الانتهاكات منذ الاستقلال، ثم تطرق للعدالة الانتقالية في الحالة الراهنة متعرضا للسيناريوهات المحتملة: الإطاحة بالنظام- أو تحوله للديمقراطية من تلقاء نفسه- أو تحوله للديمقراطية نتيجة للاتفاق بينه وبين المعارضة..
ونحن لا نود الخوض في تفاصيل العدالة في كل حالة، وكيف يمكن أن تكون بشكل ثوري في حالة الإطاحة، أو يستبدل العفو بالحقيقة والتعويضات كما جرى في جنوب إفريقيا أو في المغرب بدرجات متفاوتة.. ولكننا نؤكد أن هذه المسألة هامة وكانت قيد التداول في المنابر السودانية منذ زمان بعيد، فكيف أغفلتها اتفاقية السلام (الشامل) بشكل شبه كامل؟ وحينما أشارت لما سمته المصالحة لم تجعل لها مفوضية ولا أشارت لقانون ولا لتوقيتات مجدولة على نحو ما فعلت في قسمة النفط أو في المقاعد الوزارية؟
هل يظن مهندسو الاتفاقية من الأجانب أو الوطنيين أن السودانيين بدعٌ من البشر وأن الأمور يمكن أن تسير لديهم هكذا بدون إيلاء مسألة المظالم حقها؟ وإلام تظل قضية المصالحة والحقيقية هذه تهمل وتظل آثار إهمالها تعمل بينما الحكومة السودانية سادرة في غيها غافلة ومتغافلة؟ ومتى نترك خطى الليل هذه تسوقنا أو (حمار النوم) كما يقول أهلنا بدون انتباه؟ وإذا تركناه فما هو المصير؟ وما هي نتيجة الخطاب الذي يسود بين (المظاليم) هذا بدون الالتفات له ولكن فقط السعي لتكميمه؟..
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا