الأربعاء، 10 يونيو 2009

سُبل كسب العيش في دولة الصحابة! هذا المقال منعته الرقابة الأمنية من النشر


سُبل كسب العيش في دولة الصحابة!

فتحي الضّـو

faldaw@hotmail.com

- تتذكر يا ”عبد السميع“...أخونا ”دفع الله“ العرفتك عليه قبل سنوات وكان شغال في ”المحلية“...لما مشينا نختم عنده شهادة ”الإجبارية“؟
- أبداً والله ما اتذكرت...لا...لا...أنتظر دقيقة...ده مش الزول القلت لي شوف ليه عقد عمل في السعودية حتى لو كان خبير مراعي!
- بالضبط كده...تصور، السعودية دي جاءته هنا بس ناقصة ”البيت“! حتقول لي كيف؟ أقول ليك بإختصار شديد، شيخنا ده لما شرع في تنفيذ خططه الثعلبية، أول حاجة عمل ليه ”بتاعه“ كده في وشه، بدأها بـ ”دعوني أعيش“ وشويتين كده، مشى مع الجماعة لغاية ما وصل ”تاء التمكين“ وخلال الرحلة دي كان صاحبنا حفظ ليه كلمتين من النوع الإنتا عارفهم، وبدأ يغير في طريقة كلامه وحاجات كثيرة، لغاية ما فجأة تقمص دور الآمر والناهي وبدأ يفتي في أشياء لم تخطر على قلب بشر...المهم تتصور اليوم العلينا ده هو المسؤول من كل ”الهواء“ المستورد لدولة الصحابة! يعني أي ذرة أوكسجين لو ما وضع عليها إمضته أو قول بصمته ما في زول ممكن يتنفسها، وقالوا في كل ذرة عنده عمولة بالشىء الفلاني!
- لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني على كده الزول ده يكون طار السماء، وتلقاه آخر ”ترطيب“ بالله عليك الله شوف الدنيا وحظوظها!
- أولاً ما اسمه الزول ده اسمه شيخ دفع الله، وثانياً فعلاً هو طار السماء...عمارات وعربات وخدم وحشم وناس مثني وثلاث ورباع وتوابعهم، وثالثاً دي مش حظوظ دي الشطارة بذاتها والفهلوة بصفاتها...خليك إنت كده بره الشبكة!
هذا سيناريو يكاد المرء يجزم بأنه ما اجتمع سودانيان خلال العقدين المنصرمين، في أي ركن من أركان الكرة الأرضية ليناقشا قضايا الوطن، إلا وكان هذا السيناريو ثالثهما، فقط مع إختلاف وقائع الأحداث والشخوص وخيوط الإثارة، فعلى سبيل المثال يستمر الحوار أعلاه في التداعي مع تباين الخواتيم، فقد يندب المتحدثان ”الحظ“ الذي لم يتح لهما فرصاً مماثلة، ثمَّ لا يلبثان أن يُشيِّعا ذات الحظ بزفرات وآهات وحسرات. أو قد يكونا من عَقاب شعب ”فَضَلَ“ ما زال يمسك ببقايا قيم ومثل وأخلاق لم تندثر بعد، فيبدآن بنصب سرادق العزاء...حزناً على تضعضع تلك الثقافة وانحسارها واحتلال أخرى دخيلة مكانها، ثمَّ كشأن معظم السودانيين يختمان قصتهما بالبسملة والحوقلة وبعض آيٍ من الذكر الحكيم تعبر عن المحنة. أو قد يكونا من جنس الصاغرين، أي الذين يمكن أن تراودهما نفسيهما فيسدران في سيناريوهات مماثلة بخيال لا يكبحه ضمير ولا يزجره نذير، وكلنا يعلم أن السودانيين كانوا وإلى عهد قريب يتداولون بكبرياء غير مصطنع وشموخ غير هَيَّاب سِير مثالية تُعضد جمال قِيمهم ومُثلهم وأخلاقهم، ولكن منذ أن هبطت عليهم العصبة أولي البأس في ذاك الليل البهيم، أصبحت تلك السيرة خراباً ينعق فيه البوم! والثابت أيضاً أنه بفضل سياساتها الرشيدة، فإن بوار هذه السلعة وكساد سوقها تخطى الحدود الجغرافية ووصل لمضارب أقوام يُعدُون بالملايين في دول الشتات والمنافي وديار الهجرة والإغتراب. وسواء الصابرون في الداخل أو المكلومون في الخارج، فمن نكد الدنيا عليهم أن يروا الكذب وقد أصبح فهلوة والنفاق وقد إستحال ذكاءً والسرقة وقد أضحت شطارةً، بل حتى الحياة فقدت طعم الدهشة لمن ظنَّ أن ذلك يجرى في ظل دولة أصحاب الأيادي المتوضئة!
كنا قد ذكرنا مِراراً وتِكراراً وأكَّدنا على أن مجزرة الفصل التعسفي تعتبر الأسوأ في السجل الأسود للعصبة ذوي البأس، ومن عجائبهم يومذاك في جاهليتهم الأولى إنهم أسموه بهتاناً وإفتراءً بالفصل للصالح العام، وهو تعبير موغل في الذُلِّ والهوان! ناهيك عن أن الإجراء نفسه لو وجد مدعٍ كصاحبنا الماثل خلف البحار، لكان أدخله مدخل صدق في أضابير القانون الدولي كجريمة ضد الانسانية أو صنفه كحملة إبادة جماعية. فتلك الجريمة النكراء إلى جانب خلخلتها كيان الخدمة المدنية، فقد أدرك الناس بعد حين إفرازاتها السالبة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتمظهرت آفاتها بصورة خاصة في سلوكيات دخيلة باتت تنخر كالسوس في أخلاق الناس، وكلنا يعلم أن سياسة الفصل التعسفي تلك كانت قد طالت كل من حامت حوله ”شبهات“ تشكك في ولائه للسلطة أو مشروعها الحضاري بغض النظر عن مؤهلاته المهنية، إلى أن بلغ عدد جحافل المفصولين في تلك المذبحة أكثر من مائة ألف «بحسب زميلنا السر سيد أحمد/الشرق الأوسط 19/5/2001 بلغ عددهم في الثلاث سنوات الأولي، أي منذ الانقلاب وحتى سبتمبر 1993 نحو 76640 في حين بلغ عدد الذين أحيلوا للتقاعد منذ بدء دولة الاستعمار 1904 وحتى يونيو 1989 نحو 32419 موظفاً» ومع ذلك مضى كل شىء في هدوء مثلما تمضي سائر الأشياء في السودان منذ الأزل، بل الأنكى والأمر أن العصبة رفعت شعاراً آخر أكثر إستفزازاً أسمته ”إعادة صياغة الانسان السوداني“ واتضح بعدئذٍ إنها الصياغة التي صبت في مواعين التحلل الأخلاقي المذكور!
طبقاً لهذه التداعيات التي ترجلت فيها قيم وصعدت سلوكيات بديلة، كانت ردود فعل المفصولين أنفسهم قد تباينت بعد أن اصبحوا حفاة عراة بين عشية وضحاها، فمنهم من قبض على الجمر وعصب بطنه وشرفه مهتدياً بالقول المأثور ”تجوع الحُرة ولا تأكل بثدييها“ ومنهم من طفق يبحث عن رزق في خشاش الأرض غير آبه بالويل والثبورٍ وعظائم الأمور، ومنهم من ضرب أكباد الطائرات والقطارات وقطع بحوراً وصحارى ووجد نفسه في بلاد لم يرها حتى في الخارطة، وبالطبع منهم من أثقلت حياة الضنك كاهله ولم يستطع معها صبرا، فأراق ماء وجهه خضوعاً لقول من إدعى ألا فضيلة مع الفقر. وبين هؤلاء وأؤلئك كشفت الصدمة التي زلزلت كيان المجتمع عن قصص يشيب لها الولدان، فبات المرء يسمع مذهولاً عن أن احدى حرائر السودان...خلعت ثوبها وبسطته على قارعة الطريق بأمل أن ينفحها مشترٍ بعض دريهمات تبتاع بها دواء لصغيرها المُحتضِر، ويستوقفك رجلاً ترى فيه ملامح والدك بذلك الكبرياء المجروح فيسألك بعض لقيمات يُقِمِّن صُلبه ولسان حاله يقول إرحم عزيز قوم ذَلَ، وتشاهد بأم عين لم يصبها الرمد طفلاً يافعاً يتسكع في الشوارع، وعندما تسأله لماذا لم يذهب للمدرسة، يقول لك ببراءة كأنه يتقيأ موروث أمة موغلة في الضلالة «أبوي قال ما عنده مصاريف المدرسة» والمسكين لا يعلم أن قولاً كهذا لو ردده في إحدى دول ”الكفر والغرب الصليبي“ لهُدمت صوامع وبيع وكنائس!
بعد ان جزَّ المسؤول عن أرزاق الخلق رؤوساً أينعت فيما أسماه بالصالح العام، مضي بعدئذ إلى رحاب ربه، عنَّ للعصبة التراجع عن موبقاتها تحت مبررات ودعاوٍ معروفة، فأوهمت المفصولين بأنها ستعيد لهم حقوقهم، وكونت لهذا الغرض مفوضية تسد عين الشمس، ورغم مضي ردح من الزمن إلا أنها ظلت تدور حول نفسها ”كثور الساقية“ والمفارقة إنه حينما نادت على المفصولين أنفسهم تقدم لها نفر قليل، فهي تعلم ولا تريد أن تعلم أن الثلث مضى أيضاً إلى رحاب ربه غيظاً وكمداً، والثلث الثاني وجد في المنافي والمهاجر ملاذاً يقيه ظلم ذوي القربي، أما الثلث الأخير فنصفه هو من أستجاب للنداء، ونصفه الآخر كان قد آوى إلى جبل يعصمه مذلة السؤال، ولم يشاء أن يطلب الرحمة ممن فصله بلا رحمة. ولم يكن أمام المفوضية سوى أن تطوي كتابها ببضع مئات أعادتهم لـ ”مثواهم“ ذراً للرماد في عيون كل مدعٍ أثيم! وعلى الجانب الآخر كُتب على أهل السودان أن يروا مسرحية أخري من مسرحيات العبث، وهذه المرة قوامها المهرولون من أحزابهم لملء الوظائف الشاغرة في دولة الصحابة، وتلك لعمري من فنون العصبة التي يعجز عن أدائها أمهر لاعبي ”الأكروبات“ الصينية، إذ يقول القادمون الجدد جئناكم أهل دار آمنين تلبية لنداء الوطن، وإمتثالاً لصوت العقل والحكمة ودرءاً لمخططات الصهيونية ودول الاستكبار، فيقول لهم كورال العصبة مرحى مرحى بالعائدين إلى حظائرهم، حللتم سهلاً ونزلتم سهلاً خذوا نصيبكم من رزق خلف هذا المحراب...ساقه الله لنا وما كنا منتظريه أو كما قال!
ضع هذا جانباً يا عزيزي القارىء...هل جاءك نبأ حامل هوية العصبة نفسها، الذي لم يجد في نفسه حرجاً من أن يتسول وظيفة في الهواء الطلق! هذه ليست ”فزورة“ كما يقول أخوتنا في شمال الوادي، وحتى لا تظن إنني تعسفت في استخدام مصطلح ”التسول“ فتؤثم، أحيلك إلى مقال (الدكتور) محمد وقيع الله في صحيفة الرأي العام بتاريخ 25/2/2009 ولو أن قوله هذا جاء على لسان أحد الذين فصلتهم العصبة تعسفياً لما رأي أحد غرابةً في حق طالب به صاحبه، ولكن وقيع الله - رفعه الله وسدد خطاه - وقف كما يقف الشعراء على أبواب السلاطين، ففي المقال المذكور والذي عنونه برسالة للدكتور غازي صلاح الدين، ستندهش يا أيها الصابر على المحن مثلنا إذا علمت إن الرسالة لم يكن لها داعٍ أصلاً لأن الموجهة له إلتقاه كاتبها وأحسب (كما يقولون في مصطلحاتهم) لو أن غازي كان يعلم أن الرجل سينشر ما جرى بينهما في ”صحن المسجد“ لما نبس ببنت شفة!
في هذا المقال نظر وقيع لغازي بعيني حدأة، تماماُ مثل ما نظر من قبل لأمين حسن عمر (الذي سبق ووصفه باستاذه) بذات العينين، وفي كلٍ كان القاسم المشترك غرض أضمره في نفسه، ففي المقال الذي نحن بصدده صوًّب نحو د. غازي سيلاً من المدح والثناء يمكن أن يُذيب أي جلمود صخر في دولة الصحابة. فقد حكى عن لقاء بصدفة (متعمدة!) علمنا نحن فيها معشر القراء أن غازي قال عن نفسه أنه قارىء نهم وتلك والله من الصفات التي يطرب لها المرء، ولكن وقيع الله لشىء في نفسه يسبغ عليه لقب ”مفكر“ وهي صفة لم يدعها الرجل، ومع كامل التقدير لشخصه فنحن نرى أن بينه وبينها ما زالت ترزح فراسخ وأميال! والغريب في الأمر كلما ساق غازي مبررات في أمر ما وجد وقيع الله له المعاذير سلفاً، فعندما قال له «إن أعمال السياسة قد أصبحت تشغله عن مهام الاطلاع الفكري، وإنه أصبح يمر عليه الأسبوع الكامل، لا يكمل فيه كتاباً، فيحزن على ذلك أشد الحزن» يضع وقيع الله قوله هذا رغم وضوح اللغة في باب الطرافة! وعندما يعترف له أن ظروف العمل السياسي المتسارع أثرت على وقته الخاص في القراءة والاطلاع يقول وقيع الله هذا «إن كان له وقت خاص» ثم يبدى دهشة في قول عادي لا لشيء إلا لأن غازي نطق به «وقد عجبت لقوله وانبهرت به كثيراً، فهذا رجل دولة مفكر مسؤول بحق، يعرف أن الدنيا لا تُلاحق وتُدافر إلا بالعلم الصحيح، ذلك العلم الذي يمنح صاحبه القوة، ويؤيّده» وأضاف أن عجبه إزداد لأن هذا على عكس ما قاله له بعض أهل الإنقاذ النافذين - على حد تعبيره - مفاده «أن الاطلاع الفكري مضيعة كبرى للوقت، وأن طلب العلم غير ضروري، عندما يطعن الإنسان في السن، بل هو عبث ولهو وسفه وتعلّق بوهم» أنا مثلاً أعرف تماماً كيف أرد على من يقول لي مثل هذا الهراء، ولا يساورني أدني شك في أنك أيها القارىء الكريم تعرف أيضاً كيف ترد على من يقول مثل هذه الترهات، ولكن وقيع الله الذي تحمس وأبدى شجاعة في المدح، صمت عن ذكر القائل مثلما صمت عن رده له عندما تعلق الأمر بالذم، وبالطبع لأنه يعلم أن ذلك سيرهقه قتراً، وربما كلفه ما لا طاقة له به! ولكن السؤال... لماذا تداعي وقيع الله أمام غازي كما يتداعي البنيان المرصوص؟
الاجابة ببساطة تكمن في الكلمة السحرية ”الوظيفة“ وهي الغاية التي لهث خلفها الرجل حتى كاد المرء أن يشفق عليه، فأنظر قوله «ثم تفضّل الأخ الكريم الدكتور غازي، فطلب أن آتي لأعمل معهم في الدنيا السياسية لدولة الإنقاذ، ولو على صعيد الفكر، قائلاً إن القوم يحتاجون إلى كل من يبذل جهداً فيه، وظن الأخ الكريم الدكتور غازي أني -على ضعف بضاعتي وقلة أهبتي- أهل كي أسهم في ذلك بجهد مهما كان، وجهد المقل ليس قليلاً، كما قيل» هل لفت إنتباهك أيها المحزون مثلي عبارة ”ولو على صعيد الفكر“؟ وهل قال الرجل إن قومه يحتاجونه جراء فراغ عشعش في أركان كهفهم البالي؟ أزيدك بما يمكن أن تغض عنه البصر أيضاً «وقال إننا نخشى أن نفقدك كما فقدنا فلاناً من الناس، وذكر أخاً كريماً من أعيان أساتذة التفكير في الحركة الإسلامية السودانية» لكنك حر إن أردت أن تتقيأ ما أسماه بـ ”أعيان أساتذة التفكير“ فذلك ابتذال للفكر، وأضاف - لافضَّ فوه – أن غازي قدم له النصح الأمين «لا بد أن تحسن فن المدافرة جيداً» هل رأى أحدكم فكراً يلعب ”الدافوري“ يا سادتي! ثمَّ تواضع وقال أنه رجل ”مسكين“ بظنه أن تلك صفة من صفات المفكرين، وأشهد أحد زملائنا عن وداعته رغم إعترافه أن لديه ”خصوم“ وهو مورد دائماً ما ينأي عنه المفكرين ويتكالب عليه الذين في قلوبهم مرض، ثم قدح الرجل نفسه من حيث أراد مدحها فقال إن «كتاباته لا تشبه طبعه» فتأمل...وليت قومي يتفكرون!
لعل أكثر ما أثار استغرابي أيضاً ما عرفناه على لسان وقيع الله أن غازي الذي أضفى عليه صفة المفكر هو محض هماز مشاء بنميم بين عُصبته، إذ علاوة على ”أدب المدافرة“ الذي نسبه له، فهو يُقوِّله على لسانه «الإنسان الهادئ المتوقِّر لا يهتم به أحد أو يقدّمه في عمله، حتى ولو كان يقدمه خالصاً لوجه الله تعالى» ويزيد على لسانه أيضاً بما هو أقبح «أن المرء إذا أتى ليدافع عن الإنقاذ، أو كي يخدمها بعزة وإخلاص، فإنه ربما لا يجد في أوساطها من يرحّب به، أو من يعينه على بذل الجهد المقل. بل ربما وجد عوضاً عن هذا من يثبطه ويشكك في نواياه ويعرقل مساعيه» فهل عرف الانقاذيون ما جُبن غازي عن قوله لهم صراحة وأسَّر به لوقيع الله ولم يحفظ سره. على كلٍ بعدما فرغ من عُصبته، أورد لنا الرجل قصة عن الراحل محمد أحمد محجوب وخلافاته مع السيد الصادق المهدي وهي التي حدثت منتصف الستينات (1967) ووثقها في كتاب الديمقراطية في الميزان (1974) ورحل عن دنيانا منتصف السبعينات (1976) ولكن وقيع الله يقول إنه إستخلص منها العبر وقرر أن لا يقترب من مدارات العمل السياسي (تأمل...مع رجاء عدم الانتباه للتواريخ) ولهذا فهو تمنى على غازي والعصبة مجالاً آخراً «ولكني ما سقت هذا القول إلا لأقول إني لو طابت نفسي بالعمل مع الإنقاذ، فإني ما كنت لأعمل فيها في غير مجال عملي المتمركز على البعد الثقافي العلمي» ولا تحسبن إنني أخطىء الوصف يا قارئي، بل أرجو ألا ترد لي أخطاء لغوية أخرى باغتتك من إقتباساته، فأنا أنسخها نسخاً من مقاله بكل قبحه اللغوي، بالرغم من إنني تعودت ألا أدس أنفي في شأن لا يخصني، مثلما تعودت ألا أدس يدي في خاصرة أخطاء الناس إمتثالاً للقاعدة الفقهية التي تنزِّه الخالق – تبارك وتعالي - وحده عن الخطأ، ولكن نفسي المتوجسة قالت لي: والله لو أن أخينا في الله قرأ ما كتبه صديقنا الاستاذ مصطفي البطل على صفحات هذه الصحيفة (الأحداث 29/11/2008) رداً علي قِلة حيلة غازي في تفعيل قدراته الوظيفية في إطار النظام، ناهيك عن توظيف غيره، لما تكبد المذكور كل هذا العناء ووجه رسالة أشبه بصكوك وعد بلفور!
يعلم الله بأن هذا قليل من كثير كنت أود أن أتناوله تعليقاً على ذاك المقال الكارثة، ولكن بصدق وأمانة أشعر الآن بعدم رغبة في مواصلة ذلك، نتيجة تأنيب ضمير في أنني أشغل نفسي بقضايا إنصرافية وأورط القارىء في ذات المشكلة، وكان أجدر أن أخصص وقتي لما ينفع الناس، كما أنني أود في الختام أن أعتذر للسيد وقيع الله عن عدم تمكني من متابعة مقالاته، بالرغم من أنه أبدى غبطة وسرور فيما سبق لأن شخصنا الضعيف يقرأه، والحقيقة فعلت ذلك عندما أزمعت الرد على مقالاته العوراء التي ضلت طريقها نحو الموضوعية، ومع ذلك كان بودي أن أستمر في إدخال البهجة والسرور في نفسه، فذلك ربما ساهم في الحد من السموم التي ظلَّ ينفثها في وجوه القراء. ولكن من حقه علىَّ أن يعرف الآن لماذا توقفت؟ وفي الواقع فقد فعلت ذلك لثلاث منغصات طفحن منه كما يطفح الخبيث من الطيب، أولها: ما كتبه وظل يُكتبه في حق الدكتور حسن الترابي، والذي بالرغم من أنني أخالفه الرأي إلا إنني رأيت فيما كتبه وقيع الله فجوراً لا يليق بتلميذ مع شيخه (السابق) فقد تعلمنا أن كل القيم والمثل والأعراف البشرية تقول على التلميذ أن يتأدب في حضرة استاذه حتى ولو كانا على طرفي نقيض، دعك من أننا نؤمن ايمان العجائز بأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية! وثانيها: عجبت لمن يأكل في أناء ثم يبصق فيه فالمذكور قال إنه نال الماجستير والدكتوراة في جامعات أميركا، والتي ما أن غادرها حتى وأصبح يكيل لها من مصطلحات الكفر والإلحاد والفجور والفسوق ما عجز صاحب ”الفسطاطين“ عن البوح به، وثالثها كان قد لفت نظري في رد الدكتور عبد الوهاب الأفندي عليه في مقال سابق قول بين السطور فهمت منه أن وقيع الله هو من زمرة الذين إقتطع لهم محمد أحمد من جلده ليتعلموا وما أن قضى وطره وفرغ من رسالته ”السامية“ حتى آثر البقاء في تلك القلعة ”الوهابية“ في قلب واشنطن العاصمة كأنها هي الجامعة التي إبتعثته ولم يرد لها دَيَناً! ومن أجل هذا فقد وضعت أنا درجته العلمية بين قوسين، واظنه من أجل هذا قال لي هو في رده السابق (هاك الدكتوارة دي) وهو من قول الرجرجة والدهماء ولا يليق بحاملها!
في الختام أتمني مخلصاً أن يحقق لي أهل الانقاذ أمنية شخصية ربما وطنية لوجه الله، وهي أن يجدوا وظيفة للسيد وقيع الله في ”القطار المرَّ“ على حد تعبير قريض شاعرنا ود القرشي، لاسيما، وقد فصَّل الوظيفة التي يتمناها تفصيلاً دقيقاً «لذلك أقول لمن طلب ويطلب مني أن أعمل في إطار دولة الإنقاذ، إني لا أحبّذ العمل في أي اطار يضيق. وكل ما أستطيعه هو أن أدافر برفق في فضاءات العلم، والثقافة، والفكر، والأدب» لعل الله يضع فيه سره ويستطيع أن يصلح انحطاط الخطاب السياسي الذي رُزئنا به في دولة الصحابة، وأنهي حديثي بمقتطف من رسالة تلقيتها يوم أن عقبت عليه قبل عدة شهور، ولعلها قد تثير إستغرابك مثلما أثارت إستغرابي، إذ قال صاحبها: «أولاً أعترف لك يا أخي الكريم بأنني من مؤيدي الحركة الاسلامية، ولن أقف عند ما تضفيه عليها من مصطلحات فهذا شأنك، لكن أقول لك بكل صدق إنني وبعض الاخوة نعتقد أن هناك أخوة لنا لا شك إنهم أضرونا من حيث أرادوا نفعنا بكتاباتهم وهم الطيب مصطفي وعبد الرحمن الزومة ومحمد وقيع الله، نسأل الله أن يصلح احوال الجميع» والحقيقة لم أرد على تلك الرسالة، ولكني أتمني أن يكون مرسلها أحد المطلعين على هذه السطور، وأتمنى أن يكون خاطب ثلاثتهم مباشرة، ومن عندي أضيف رابعهم اسحاق احمد فضل الله الذي يبسط ذراعيه بالوصيد في مدخل الصحيفة الصفراء وينهش في عباد الله الصابرين آناء الليل وأطراف النهار!

· هذا المقال منعته الرقابة الأمنية من النشر اليوم الأحد 22/3/2009 في صحيفة الأحداث