الأربعاء، 10 يونيو 2009

ذلك ما كنت عنه تحيد يا مولاي! حظرت الرقابة الأمنية هذا المقال


ذلك ما كنت عنه تحيد يا مولاي!

فتحي الضّـو

faldaw@hotmail.com

إنني أُعلن في هذا اليوم ”الأغر“ عن مدى إخلاصي وتقديري وولائي لمَثل شعبي طالما ردده الناس كثيراً، وذلك بعد أن شعرت بأهميته في حياتنا وبالأخص في العقدين المنصرمين، أما أنت يا عزيزي القارىء فإن كنت من المغرمين برصد امثالنا الشعبية تلك من زاوية أيُهم أكثر ذيوعاً وانتشاراً وأيُهم أوقع أثراً وأعمق تطبيقاً في حياتنا اليومية، فإنك لن تجد أفضل نموذجاً من المثل القائل «الناس في شنو والحسانية في شنو!» والحقيقة إنني شأني شأن بعض عباد الرحمن السودانيين أستخدمه مراراً وتكراراً ولكني لم استوقف نفسي مرة في خلفيته التي جعلت منه مثلاً يُعطِّر حياة الناس بالعِظات والعبر. وكنت قد بذلت جهداً مُكثفاً بين أصدقائي الذين توسمت فيهم العلم والدراية بأمثالنا الشعبية بغية استنباط حقيقته، ورغم أن الحصاد كان وفيراً إلا أن الروايات تضاربت كثيراً وتراوحت علواً وهبوطاً، وهو شيء طبيعي بخاصة أن التجارب أثبتت أن الاجماع أمر دونه خرط القتاد في أي شأن يهم أهل السودان، وتلك ظاهرة صحية لعل مردها في احدى جزئياتها الكثيره إلى حياة البداوة والتنوع الثقافي الكثيف، والذي أتفق العُقلاء على أنه يُفترض أن يثرى حياة الناس ويكون مصدر تعايش لا تناحر بينهم، وتلك هي الحقيقة التي ينبغي على الجُهلاء ادراكها، إذ أن الذين تجاهلوها - سهواً أو عمداً - إكتشفوا أنهم سبحوا ضد التيار وأهدروا زمناً ثميناً وجهداً عظيماً فيما لا طائل يُجنى من وراءه!
إتفقت الروايات أن أصحاب المَثل هم أهلنا الحسانية الذين يقطنون النيل الأبيض حتى تخوم كردفان، وقيل إنهم فرع من قبيلة الكواهلة التي ينتهي نسبها إلى الزبير بن العوام إلى جانب الحسنات والعبابدة وآخرين، وقد قرأت لأحدهم في موقع اسفيري بما لا أجد له سنداً مرجعياً قوله انهم بطون وأفخاذ منهم: المغاوير والغلاماب والغشوشاب والنمراب والشانخاب والحمالاب والدبلاب والحمراب والقياداب والحفيناب والعوضاب والمصيلحاب والشقيلاب والكسيباب والكيقوناب والغروجواراب والعطالاب وأبوكفير وجرينا وأمرية وهلمُ جراً، لكن بروفسير عون الشريف قاسم في موسوعة القبائل والأنساب ذكر أن أصلهم ”فونجاوي“ أي أنهم ينتسبون لقبيلة الفونج التي يتخلط فيها الدم الزنجي والحبشي، بالرغم من أن ذلك ليس شأننا الآن إلا انه كان ضروي لتوضيح أن المنطقة أصلاً كانت منطقة هجرات مختلفة وهي الحقيقة التي تقودك إلى طبيعة المَثل!
فهناك من نسبه إلى المك نمر برواية قيل فيها أنه توجس خِيفة من سماعه جلبة وضوضاء أثناء مروره بأرضهم في طريقه إلى الحبشة بعد حملة جيش الدفتردار الانتقامية لمقتل اسماعيل باشا، فقيل له إنهم جماعة من الحسانية مشغولين بقنص أرنب كانوا يطاردونها على مقربة من مخبئه فصدرت عنه تلك العبارة. وهناك من نسبه إلى الخليفة عبد الله التعايشي الذي سألهم نُصرته لمواجهة جيش كتشنر، فتحججوا بدعوى أنهم مشغولين بسباق للحمير دأبوا على إقامته سنوياً، ومن قائل إنهم سألوه تأجيل دعوته ريثما تنتهي المناسبة، ورواية أخرى تشير إلى أنهم طلبوا يوماً غير اليوم الذي يصادف المناسبة، وثمة قائل أيضاً إنهم دعوه لترك مهامه ”الجهادية“ وحضور الاحتفال! وفي التقدير أي كانت الحقيقة، فقد كان ذاك هو رد فعله الذي جرى مثلاً بين الناس، وهو ما أعجبني بصفة خاصة بغض النظر عن تعدد رواياته، فهم في نظري قوم تلهَّوا بالدنيا وهي محمدة لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلقها عبثاً وإنما للتمرغ في نعيمها والاغتراف من معينها، فالسعادة لا تأتي للمرء بمحض ارادتها فهو من يصنعُها وفق مرئياته ليستمتع بها على هواه، فما ضَّر الحسانية آنذاك إن زهدوا في المتاعب والفتن وأقبلوا على الدنيا إمتثالاً لأمر خالقهم الذي حثنا على عدم إكراه خلقه على فعل لا يرغبونه!
وللذين لا يعرفون جغرافية هذا البلد الأمين فثمة جبل شمال غرب مدينة شندي يطلق عليه اسم جبل الحسانية ولربما أن المقيمين حوله فرع من ذات القبيلة، ومن طرائف ما قرأت لكاتب هاوٍ يعمل في منظمة مختصة بشئون الزراعة ويصف رحلة إلى ذلك الجبل بعد أن ابلغتهم منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة (الفاو) بهجوم سيشنه جيش عرمرم من الجراد والعناكب من ثغرة استراتيجية ناحية الجبل، فحمل الخبراء معدات الرصد وأسلحة الدمار الشامل وأقاموا معسكرهم بالقرب من الأهالي توخياً ليوم المنازلة الكبرى. لكن بقاؤهم طال واستطال بحسب روايته ولم يأت الغزاة! وخلاله اصبحوا فريسة للثعابين والعقارب التي تعُج بها المنطقة فما كان منهم إلا أن حملوا أمتعتهم وعادوا أدراجهم بخفي حنين معلنين فشل نبوءة المنظمة الدولية! وفي خبر طريف آخر قرأت في احدي الصحف السعودية قبل فترة ما لفت إنتباهي ورسخ في ذهني عن قبيلة في المملكة بنفس الاسم ويسكنون في منطقة تقع في الطريق بين مدينتي جدة وجيزان، وفيه وجَّهوا رسالة لسلطات بلدية ”الليث“...الغريب فيها أنهم لا يشكون شظف العيش ولا نكد الدنيا وإنما ضيق مقابرهم بموتاهم، وقالوا إنها أصبحت صعِيداً جرزاً أي نهباً للسيول والرمال المتحركة والحيوانات الضالة...والحقيقة عجبت لقوم أدبروا عن الدنيا زُهداً وأقبلوا على الآخرة حباً بعكس حسانيتنا!
ولكن لا تحسبن يا صاحٍ إننا إستأثرنا بالحسانية وحدنا عمن سوانا، فقد أبحرت في الكمبيوتر أو الحاسوب كما يقولون، ودخلت (قوقل) بسلام آمنين...فقادني إلى مغارات ومتاهات ودهاليز...وجدت فيها قوماً حسانيين آخرين، قالت عنهم الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) أنهم يعيشون في صحاري جنوب المغرب وجنوب غرب الجزائر وشمال مالي وموريتانيا (الساقية الحمراء ووادي الذهب) وينتمون إلى قبائل بني حسان ولهم لهجة بدوية خاصة بهم وهي مشتقة من اللغة العربية، بل يعتبرون الأفصح بين قبائل تلك المنطقة نسبة للعزلة التي ضربوها حول أنفسهم، كما أن لهم تراث ثقافي غاية في الثراء والجمال. ولم أدر إلا وقد وجدت نفسي واهباً ساعات طوال لتلك القبيلة في محاولة للتعرف على نمط حياتهم بخاصة في فنون الشعر والقصص والموسيقى، وبهرني أن لديهم نوع من الشعر لا تتداوله إلا النساء فقط ويسمى بـ (التِبراع) وفيه يتغزَّلن بالرجال بعيداً عن أنظارهم، بل ويضربن سياجاً من السرية حول جلساتهن الخاصة تلك، فيتحسَّرن على صدود الحبيب ويتأسَّفن على جفاه وعدم اكتراثه، وقد يكون الرجل الممدوح محبوباً أو زوجاً أو أخاً أو صديقاً أو أي رجل تشعر المرأة بأنه حرّك فيها غريزة من غرائزها الساكنة، وذكر الموقع أن هذا النوع من الشعر عمّ الحضر والبوادي في موريتانيا، الأمر الذي كان له أثراً كبيراً في التحولات المجتمعية نحو المرأة أو حتى على صعيد العلاقة بينها والرجل!
ما أن فرغت من تلك السياحة التي إستهلكت فيها وقتاً كبيراً حتى وجدت نفسي أسير نوبة تأنيب ضميري بالغة التأثير، إذ كيف أنشغل بمسألة انصرافية كهذه في يوم أرعدت فيه حناجر البعض واستل آخرون سيوفهم من أغمادهم وتباروا في التعبير عن مكنون غضب أصاب الأمة في هَرمها، لكنني سرعان ما تجاوزت أزمة تأنيب الضمير تلك بالتأكيد على أنني سبق وأن قررت سلفاً وبمحض إرادتي أن أكون حليفاً مخلصاً للمثل الشعبي الذي تصدر هذا المقال، وذلك يترتب عليه بالطبع أن اصنع لنفسي عالماً خاصاً بها سواء كان قنص أرنب او سباق حمير أو أحصنة، طالما أن الآخر يصنع لنفسه عدواً ينفث فيه غضبه ولا أحد يسأله عمن هو ولا لماذا؟ وعليه قررت المضى قدماً فيما عزمت عليه، فدفنت نفسي بين دفتي كتاب كنت قد بدأته منذ فترة عن حياة الخلفاء الراشدين، ومن المفارقات الغريبة أن الفصل الذي توقفت فيه كانت يتحدث عن الخاتمة التي إنتهي إليها الأربعة الكرام حيث أن ثلاثة منهم راحوا مغدورين وجميعهم تدعو خواتيم حياتهم للتأمل والتفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة، ليس من باب الادبار والاقبال الذي ذكرنا، وإنما من زاوية دعوة ذوي الألباب للعظة والاعتبار فيما بين الدارين!
عندما شعر سيدنا أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين رضى الله عنه بدنو أجله تلى الآية الكريمة التي تجسد عظمة المشهد «وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت عنه تحيد» ثم قال لابنته عائشة «انظروا ثوبيَّ هذين، فأغسلوهما وكفنوني فيهما فإن الحي أولى بالجديد من الميت» ثم أغمض عينيه وصعدت روحه إلى بارئها. وحول خاتمة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه الذي إنقض عليه أبو لؤلؤة المجوسي أثناء صلاة الفجر وطعنه طعنة قاتله رغم عدله الذي اشتهر به وحدا به أن ينام قرير العين تحت ظل شجرة. جاء عبد الله بن عباس فقال: يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس وجاهدت مع رسول الله (ص) حين خذله الناس وقُتلت شهيداً ولم يختلف عليك اثنان، وتوفى رسول الله (ص) وهو عنك راضٍ. فقال له: أعد مقالتك فأعاد عليه، فقال: المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لأفتديت به من هول المطلع. وقال عبد الله بن عمر: كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه فقال: ضع رأسي على الأرض، فقلت: ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي؟! فقال: لا أم لك، ضعه على الأرض، فقال عبد الله: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي عزَّ وجل.
أما سيدنا عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين رضى الله عنه، قال حين طعنه الغادرون والدماء تسيل على لحيته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. اللهم إني أستعيذك وأستعينك على جميع أموري وأسألك الصبر على بليتي. وأخيراً كان مشهد سيدنا على بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين بالنسبة للسنة وأول الائمة لدي الشيعة، فقد قال لحاضريه وهو يحتضر من أثر الطعنة التي وجهها له عبد الرحمن بن ملجم: ما فُعل بضاربي؟ قالوا له أخذناه، فقال: أطعموه من طعامي واسقوه من شرابي، فإن شعت رأيت فيه رأيي وإن أنا مت فأضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها!
بينما أنا في غمرة وقائع الآخرة التي تقشعر لها الأبدان في سيرة الصحابة الكرام، إذا بصديق عزيز ينعش ذاكرتي ويرجعني إلى عالم الدنيا الذي كدت ان ازهد فيه، فبعث إلىَّ بالقصيدة العصماء والتي سبق وان القاها الشاعر الفحل نزار قباني في مهرجان المربد الخامس عام 1985 ويومذاك إرتجفت أوصال وزير الاعلام لطيف نصيف جاسم الذي إعتقد أن نزار سيحذو حذو شعراء السلاطين الذين دأبوا على المدح فإذا بها يأتي بالنقيض، والقصيدة كما في كل شعر نزار تُجسد الأوضاع العربية بشكل عام، إلا أن قارئها أو سامعها لا يلبث أن يعتقد في أنها موجه له شخصياً، ولهذا لا غروَّ أن ثارت ثائرة لطيف نصيف وضرب حولها حصاراً حتى لا تجد طريقها نحو الصحف العراقية، في حين أنه لم يكن ثمة ما يعترض سبيلها نحو بقاع العالم المختلفة، وقد إبتدرها بقوله:
مُواطنون دونما وطن/ مُطاردون كالعصافير على خرائط الزمن/ مُسافرون دون أوراق..وموتى دونما كفن/ نحن بغايا العصر/ كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن/ نحن جواري القصر/ يرسلوننا من حجرة لحجرة/ من قبضة لقبضة/ من مالك لمالك/ ومن وثن إلى وثن/ نركض كالكلاب كل ليلة/ من عدن إلى طنجة/ نبحث عن قبيلة تقبلنا/ نبحث عن ستارة تسترنا/ وعن سكن.../ وحولنا أولادنا/ احدودبت ظهورهم وشاخوا/ وهم يفتشون في المعاجم القديمة/ عن جنة نظيرة/ عن كذبة كبيرة...كبيرة/ تُدعى الوطن. وهكذا تمضى القصيدة الرائعة والمعبرة إلى أن يختمها بقوله: مُسافرون نحن في سفينة الأحزان/ قائدنا مُرتزق/ وشيخنا قرصان/ مُكُومون داخل الأقفاص كالجرذان/ لا مرفأ يقبلنا/ لا حانة تقبلنا/ كل الجوازات التي نحملها/ أصدرها الشيطان/ كل الكتابات التي نكتبها/ لا تعجب السلطان! ثم يقول: ويا وطني كل العصافير لها منازل/ إلا العصافير التي تحترف الحرية/ فهي تموت خارج الأوطان!
كانت تلك القصيدة هى آخر عهد نزار ببغداد ولم يطل من العراق شيئاً سوى بلقيس نخلته الفرعاء التي رحلت مغدورة، ومضى علينا حين من الدهر رأينا فيه صدام وصحبه وقد أنفض عنهم أصحاب القصائد المُدبجة والمزيفة، ونأى عنهم النشامي الذين كانوا يُخِرجونهم عنوةً وإقتدارا في مظاهرات مُمسرحة، وإنزوى هُتاف الروح والدم في غياهب العدم، ذلك إنه عندما إعتازهما فعلاً الرئيس القائد كانا قد تبخرا في الفضاء الواسع وذهبا مثل ما ذهب هو مع الريح. أما نزار فقد رحل في هدوء بعد أن أدى رسالته في الحياة على الوجه الأكمل...والتي كان فحواها بإختصار إن الحرية ضرورة حياتيه كما الماء والهواء، والحياة نفسها لا تستقيم مع البغضاء والشحناء والكراهية، ولا تستوى على إشعال المكائد والمصائب والفتن، ولا تنسجم مع التهديد والترهيب والترعيب، فالعاقل من يتنسمها حباً ويتنفسها وئاماً ويشعها نوراً على نفسه وغيره!
والآن ماذا ترى أيها القارىء المِفضال هل رأيت إنساناً مخلصاً في هذا اليوم ”الأغر“ للمثل الشعبي الدارج أكثر من العبد الفقير إلى ربه كاتب هذا المقال، فإن قلت نعم كما أتوقع من العصبة ذوي البأس، فاسألك بربك عالم السرائر ألا تجد حرجاً في نفسك من أن تقول لمخاطبك بملء فيك وبلغة فصيحة: أيها الناس «أنتم في ماذا وهذا في ماذا؟» أو بلسان سوداني مبين «الناس في شنو وده في شنو؟» فلا تحسبن أن قولك يُرهقني...إذ لن تضيرني اللغة شيئاً طالما أن اوصالي بخير!!

· حظرت الرقابة الأمنية هذا المقال الذي كان يفترض أن ينشر اليوم الأحد 8/3/2009 في صحيفة (الأحداث) السودانية.